السلام عليكم
المكتوب مكتوب
طفق يجول أرجاء المدينة على غير هدى.. همه الوحيد، الإبتعاد ما أمكن عن حانوت الريفي، رب عمله، هذا العمل الذي يدر عليه دراهم معدودات تكفيه مصاريف المأكل و المشرب و المسكن و نادرا ما يتبقى له قدر قليل ينفقه في تعويض ملابسه البالية بأخرى جديدة..
شمس ساطعة تنذر ببقية يوم حار متعرق.. بلغ محطة حافلات النقل الحضري التي تعج بالموظفين الذين اقتربت ساعة التحاقهم بأماكنهم.. تأمل وجوههم المكفهرة التي أتعبها الإبتسام المبتذل.. تساءل إن كانت تعد الإبتسامة في وجه الآخر فعلا صدقة حتى و إن كانت مصطنعة، فرضتها قوانين الشركات على مستخدميهاللحصول على راتب آخر الشهر.. لا شك أن كل أصحاب تلك الوجوه يفكرون مثله، و يتحسرون على لحظة كان عليهم اتخاذ قرارات أخرى غير تلك التي اتخذوها.. لكنه ليس مثلهم.. ليس بعد اليوم.. هم يستسلمون بسهولة و يتركون التفكير جانبا مؤمنين ببساطة بأن كل شيء مكتوب.. ألا يمكن تغيير المكتوب.. بمكتوب آخر ؟ خطواتهم السريعة نحو وجهة ألفوها، تجيب بالنفي على هذا السؤال.. أما خطاه فقد قررت الرحيل إلى غير رجعة، لن يفعل اليوم ما يفعله كل يوم، سيختار وجهة غير تلك التي تعودها.. بإمكانه تدبر أموره من دون عمل، صَدَقَت أنطوانيت، لا أحد يموت جوعا.. سيتخلى عن كل شيء في سبيل عدم الإستسلام للخدر..
تلاشى زحام الصباح و اختفى الجميع في أماكنهم، لازالت مسيرته مستمرة نحو تكسير القواعد.. لم توجد القواعد سوى لتكسر.. تذكر يوم دمعت عينا والدته و هي ترجوه أن يتخلى عن سعيه وراء حلمه في ولوج الجامعة خوفا عليه من الفوضى، من صليل سيوف المنحرفين، من حجارة المشاغبين و هراوات الشرطة.. يومها لوحت به بين نارين، نار التخلي عن حلم بات قريب المنال، و نار عين لم يرى دمعها من قبل.. حاول جاهدا إقناعها بأنها بفكرتها تلك عن الجامعة، بعيدة كل البعد عن الصواب..استعمل جملا و عبارات ما كانت لتفهمها..قارعته بدورها متوسلة كلمات بسيطة نفاذة اخترقت قلبه.. تظاهر بالإقتناع.. وضع حلمه في صندوق قديم، اختار مكانا ملائما، حفر حفرة عميقة ثم طمر الصندوق دون أن ينسى وضع شاهد على القبر كتب فيه بخط عريض "كل شيء قد كتب منقبل.. و ما نحن سوى ممثلين، تحكمنا أحداث قصة لا علم لنا بنهايتها كيف ستكون، متى و أين..."
اشتد القيظ.. لم ينتبه إلى أنه قد بلغ مركز المدينة.. تأمل المباني العملاقة شاردا و كأنه يراها لأول مرة.. اخترقت سمعه صفارات حادة و وقع أقدام سريعة آتية، التفت ليستطلع ما يجري، لمح فوجا من الشباب يقتربون منه لاهثين.. هم طلبة عاطلون.. تطاردهم القوات العمومية.. اصطدم به بعضهم، صرخت في وجهه الشابة العاطلة أن أهرب إني أخاف عليك بطش المطاردين و عصيهم المطاطية التي لا ترحم.. لم يدري ما يفعل، لم يعش موقفا مماثلا من قبل.. قرر أخيرا أن يطلق لقدميه العنان داخل السرب، لكنه سرعان ما تراجع، لا يحق له اللحاق بهم، فلا هو منهم و لا هم بأمثاله، لم يكن طالبا، لم يكتب له أن يرتاد جامعة بسبب دموع الحبيبة..
كانت على حق اذن...
استسلم للتفكير و لم ينتبه للساعد المفتول القابض على العصى التي لا تفرق بين طالب و عامل في حانوت، انهمرت الدماء ساخنة على وجهه و رقبته، سقط و راح يتلوى ثم غاب عن الوعي...
تم اطلاق سراحه بعد أسبوع في المشفى وأسبوع آخر في مركز الشرطة على ذمة التحقيق.. اتجه نحو حانوت الريفي بعد أن أعد دزينة من الأكاذيب و أجود الاعتذارات.. ألقى نظرة ليطمئن على القبر الجديد بشاهده الذي نقش عليه " كل القواعد قد وجدت لتكسر.. وكذلك الرؤوس التي تسعى وراء ذلك، والتي لا تؤمن..بأن كل شيء مكتوب..."
سلامي