بعض الثقة ،، نوع من الانتحار .
والانتحار ،، ليس سوى .. قمة الثقة ..
لازلت أتذكر عدد تلك المصابيح الموجهة إلي والمثبتة بعناية على صفيحة حديدية صلدة، كانت تلاحقني بأضوائها الكاشفة
ـ عن كل شيىء إلا ما في الصدور ـ كلما رفعت رأسي لأمنح نَفْسِي فرصة التقاطي نَفَسِي .
وذلك التناسق اللامتناهي في جلوس الحضور بلباسهم الرسمي الذي يتناسب ومستواهم الاجتماعي ..
صمتهم الرهيب كان كافيا ليقتل الضجيج المتشابك في دواخلي .
ومكبر الصوت ذاك الذي ضبط على درجة محددة حيث لا يتجاوز مداه حدود القاعة .. لئلا نتهم بالتشويش وإزعاج الآخرين الذين لم يكونوا سوى قاعات مماثلة مصطفة على طول شارع الأمم الذي يقسم مدينتنا نصفين .. خاصة في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل .
كانت كلماتي منتقاة بعناية .. كسهام رامٍ محترف لا يخطىء هدفه .
بين الفينة والأخرى كان الحضور يتفاعل بتصفيقات صداها كصوت مطر عاصف يشتد لبرهة ثم لا يلبث أن ينقطع ..
تصفيقات تلهب حماسي وأتفاعل معها برفع صوتي ملوحا بكلتا يداي .. مسترسلا في تصويب سهامي ..
ومقاوما الأضواء الكاشفة .. وكرهي للانتظام .. وتمردي على انخفاض صوت المكبر المتعمد ..
منتزعا تصفيقاتهم .. مرغما إياهم على ترديد شعارات لا يسمعها سواهم .. تتلاطم فيما بينهم ثم تسقط عند أرجلهم ..
كل ذلك ما كان لينغصه سوى دنو السطر الأخير ..
كان مشهد الكلمة الأخيرة مرسوما بمخيلتي .. بأدق تفاصيله .. حتى ردة فعل الحضور خَصصت لها تعاملا يليق بها ..
بدأ صوتي ينخفض تأهبا لمعانقة نقطة النهاية ..
أحس من كان يوشوش ورائي خلف الستار بذلك والذي لم يكن يسمعه أحد سواي .. كم تزعجني الوشوشات ..
وقبل دخولي في أحداث المشهد الأخير ترامى على المنصة آخذا مكاني في الكلام
مرددا بصوت مرتفع : قبل الكلمة الأخيرة .. اسمحوا لي وباسمكم جميعا أن ننتهز فرصة تواجد .. مشيرا إلي بيديه .. بيننا
الفرصة التي انتظرتموها وانتظرناها معكم كثيرا ونهديه قلادة السلام
وهي أعلى قلادة وطنية ..
فجأة صرت شيئا ما !
كان صوت ما يثور علي .. ينادي بحقه في إتمام الكلام .. وحقه في تصوير المشهد الأخير
آه والكلمة الأخيرة .. لا أريدها أن تضيع .
واختلط صوت الداخل .. بصوت من اعتلى منصة القاعة دون إرادة منه .. ـ لا أعرفه .. لا أحد يعرفه ـ
وصوت التصفيق المتعالي فرحا بشيئ ما لم يحدث بعد ..
طلب منه أن يقف مستقيما ويرفع رأسه .. استجاب بسرعة وفي لحظة استسلام أحس بشيىء خشن لا يشبه في ملمسه القلائد يلامس عنقه ..
ثم رفع يده لتحسس نوع قلادة السلام .. سمح له بعدها بالقاء كلمة شكر لكن عند عتبة كلمته الأخيرة .. هوت قدماه
وأحسست بشيىء تكسر في داخلي .. ليس بقدر تكسر حلمي
لكنه كان كافيا .. ليجعلني أفتح عيناي ..
الكلمة الأخيرة .. ليت بداية أي شيىء تستمر معه حتى النهاية .. لكن ليست كل النهايات كما نتوقعها دائما ..
أما المشهد الأخير .. كان سينتحر على أية حال .. كان كله ثقة بأن ما سيجده هناك لن يكون أقل بشاعة مما وجده هنا ..