بسم الله الرحمن الرحيم
السـلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،
***
مواصلة
كم الساعة؟ وهل تنام القاهرة! القاهرة لا تنام مهما انطفأت أنوارها..
مهما سار الزمان يبقى كل شيءٍ كما كان؛ مدينةٌ تتعبق بالكآبة والوحشة إذ يحلُّ الليل، أنت لا تشتهى فى شوارعها إلا مواصلة تأخذك لبيتك من حفيف الأشجار فى سلام.. ها هى حافلة خضراء صغيرة، لعلها آخر ما سيظهر هذه الليلة، لأشاور للسائق إذن..
سباحٌ انتشل إنسانًا قبل الغَرق، أتمسكُ بالمِسند اليسارى وأضع قدمًا بالداخل. يتحرك السائق فيهتز جسدى بينما أعطيه جنيهين معدن، لم أجد كرسى شاغر سوى على الكنبة وأنا أكره الجلوس عليها لكثرة التنطيط مع المطبّات، مهلًا مهلًا.. هاك كرسيٌّ شاغر بجانب هذا الرجل العجوز، دققت فى وجهه قبل أن أقترب منه، بدا لأول وهلة هادئًا بائسًا ذو نظارة مقعرة، تلتصق وجنته بزجاج النافذة وتسرح عيناه مع إنعكاس أضواء الأعمدة على مبانى المدينة، جلستُ إلى جانبه، الحافلة ساكنة كأنها تحوى أموات، مقبرةٌ متحركة! ليس الأتوبيس مكانًا تقضى بِهِ حاجتك لمواصلة، المعنى أكبر من ذلك؛ الأتوبيس مساحة شاسعة لـلتأمل فى مآسى الحياة، أو الانفصال عن العالم بسماعات الهاتف، وقد يكون للاستمتاع بنزهة حول المدينة، كما أنه يكون أيضًا لإقامة دراسات نفسية مُتعمِّقة للراكبين.
***
أنا لا أستطيع أن أنظر إليه وأنا أجلس بجانبه وإلا لاحظنى فيظننى غريب الأطوار، كنت كجاسوس يتوخى انكشاف أمره.. كم عمره يا تُرى؟ سبعين.. ثمانين.. لقد وَهِن جلد وجهه الأسمر، أما شاربه فأصبح كفرشاةٍ بالية! حتى عيناه ذبلتا.. وهل لديه أمل فى الحياة بعد؟ ثم هل يدور بعقله إلا الطيبات؟!
وجدته يدس يده فى كيس أسود كان معه ويخرج منه زجاجة مياه غازية بطعم البرتقال، هل يفتحها بضروسه أم.. ؟ أخرج فتَّاحة من كيسه الأسود ليقتل تساؤلاتى، عدته مكتملة، يفتح ويشرب ويتنحنح.. بعدها بقليل وجدته يخرج علبة سجائره المحلية ويخبطها بسبابته خبطتين فتخرج سيجارة، ينظر إلىّ مباغِتًا ويعرضها علىَّ:
هكذا قلت، فيشعلها هو ويتمزج بشرب المياه الغازية مع السيجارة، لكأنه يجلس فى مقهًى سحرى، كيف يفعلها؟ كيف يفعل ذلك؟ تخيّل نفسك تجلس على مقهى وفى أقصى لحظات حياتك زخرًا بالتمزّج، أظنه فى تلك اللحظة الآن؛ إن المكان لا يفرق معه، فالمزاج رائق على طول الخط، لا مجال للتعكير..
هذا بالضبط ما قاله مبتسمًا بمرح، استعجبت ومَرَّ بعقلى لحظتها مُر ذكرى النكسة كأنه مسئول عنها وحده ولكنى لم ألبث أن تذكرت ذكرى حرب أكتوبر، أين كان والبلد تنهار؟ وأين كان والبلد تستفيق؟.. لا، لا؛... لا يحق لى أن اختزل ماضيه فى ذكرى واحدة فهذا جور.. يلتفت لى ويقول دونما سبب كعادته هذه الليلة:
تسعة وستون، إذن فقد وُلِد عام ألف وتسعمائة أربعة وأربعين، قبل أن تنتهى الحرب العالمية بعام، ولعله شهد على حرب فلسطين ولم يدركها، ولقد كان عمره ثلاثة وعشرين وقت النكسة، لعله كان جنديًا ممن شهدوا المأساة.. لا، لا.. يُحال أن يكون رائقًا هكذا إذا شَهِد النكسة فى أحشاء المعركة.. مُحال.. (أيوه يا أسطااااااااا) هكذا سَمِعت من خارج مجال أفكارى، كانوا صبية.. أربعة أو خمسة.. خمسة إذن، ومع أنى لا أحب التصنيف أو القولبة ولكنك إذ ترى مثل هؤلاء المراهقون تُجزم بكامل اليقين أنهم سيصيرون عبئًا على المجتمع فى المستقبل؛ سيتحولون إلى مجرمين بلا ريب، رشاقة فى البنيان، تربّص فى نظرات العينان، وصخب لا ينقطع.. عُدت أقول لنفسى مَن أدراك بالغيب؟ ألا يجوز فى مثل هذا الوطن أن تحدث العجائب؟! أليس بمحتملٍ أن يصيروا عقلاء؟
يجلسون على الكنبة الخلفية وتنفجر أصواتهم الصاخبة فى المزاح، كيف تدور بعقولهم الصغيرة سوى التوافه والشهوات؟ اهتياج وهرج و...
أين ذهب العجوز؟ لا يزال بجانبى، حسنًا، لعلى أنا من ذهبت بتفكيرى للعيال وتركت الرجل..
قال ثم بدأ يعالج وضع نظارته الطبية العملاقة، ونظر لهم قائلًا:
يخرج سيجارة بعد خبطتين ثم يهم بمناولتها لقائدهم –أو الذى بدا قائدهم-
" يا حاج، حرام عليك، التدخين ممنوع هنا!"
هكذا وجد أمامه عائق منعه من تنفيذ رغبته فى إعطاء أحدهم سيجارة، هذا العائق هو "الكمسرى" الذى يبدو أنه تجاهله فى المرة الأولى إلا أنه فاض به الكيل فى الثانية لمّا رآه يوزع من سجائره.. وبقى السؤال الأهم الذى علىَّ أن أسأله لنفسى: لماذا يصر العجوز أن يعطى سيجارة لأحدهم هذه الليلة؟! هو يبحث عن صديق، هذا مؤكد، يبحث عمن يعيده إلى الحياة الأولى.
دخلنا فى منطقة مليئة بالعمارات الحديثة، عمارات بلا طعم، سقف قريب من الأرض كأنه يقول لك: انحنى أو مُت!، يقولون أن عمارات ناصر لم تصبر فى زلزال 92 لأنها بُنيت فى خضم الاشتراكية وعدم إتقان العمل، وأنا أقول أن عمارات الألفية لن تصبر أمام نزوة ريح ثائرة!
الحافلة تغرق ببطء ولا شيء يقطع الإظلام سوى ضوء أصفر ضعيف من لمبة فى الأعلى.. أشعر بأن عقلى يبدأ نوبة من الهذيان وسيظل يهذى إلى حين، وسيظل وعيى غائبًا لفترة ما.. وحتى إشعار آخر.. فأنا حاضر، فى الزمان وفى المكان، حاضر ولكنى أغيب أحيانًا، حينما يغيب الوعى.. وليس ضرورى للوعى من مُسكرات كى يغيب، فالوعى نفسه يتحين الفرصة لـيختفى ويغيب، فالغزال إذ تهافتت عليه الوحوش سيختفى ويغيب..
هكذا قال العجوز وهو قائم ماسكًا بالكيس الأسود، قمت وتنحيت جانبًا لأجعله يمر، ورأيت المراهقين الخمسة يندفعون خارج الأتوبيس وفى إثرهم العجوز.. ورغم أننى سأظل لمدة طويلة أتساءل عن السبب الذى جعلنى أنزل خلفهم إلا أننى وقتها لم أكن أمتلك من الرجاحة الكثير، لعل كل ما أتى لذهنى وقتها أن على الإنسان –أحيانًا- أن يرتكب حماقات، اندفعت إثرهم.. وفى الشارع جلس المراهقون على الرصيف يتململون لرؤية الرجل العجوز وهو يقترب نحوهم، ولكن أحوالهم تتبدل حينما تذكروا أن الرجل معه وافر كبير من السجائر، يوزع هو عليهم فى كرمٍ، دخّنوا معه، ثم بدأ أحدهم يُعِد سيجارة من الحشيش، بدا العجوز وقتها مغمور بالسعادة كطفلٍ صغير أهداه والداه لُعبة جديدة..
يبدأون التدخين ممتزجين بالعجوز، تعالت ضحكاتهم وسخريتهم من كل شيء فى الحياة، لم ألحظ أن العجوز وقتها مختلفًا عنهم، أصبح واحدًا منهم وأصبحوا هم مِنه، مواصلة غريبة بين جيلين، عجوز على مشارف السبعين من عُمره توافق سبيله وفِكره مع ثلة مراهقين. دارت بعقلى أسئلة عديدة وقتها فحتى متى يلازمهم؟، وهل سيلبس من الغد ملابسًا تناسب عُمره الجديد، أيشاركهم اللعب، والاحتيال على سائقين التاكسى، ومشاكسة المارة، ومزاملة فتيات الليل؟ مَن ير الصورة يجزم أن شعره سيسوّد وستختفى تجاعيد وجهه وسيحال إلى مراهقٍ أبله، على قدر سعادتى بموقف العجوز وهو يتحول لمراهق على قدر شفقتى بأشيب تناسى مشيبه واستسلم لهواه؛ فما فائدة الحياة إذن؟ ما فائدة العُمر الطويل إذا كانت النتيجة واحدة، كأن كل ما بالدنيا سيبقى على حاله، اللصوص سيبقون لصوصًا وسيزاملون اللصوص الصِغار إذا ما كبروا، والأطباء لن يحادثوا إلا الأذكياء، والطيبون سيرثون ويورثون الطيبة، وعِباد الحكام سيتوافقون مع العبيد..
على الجهة المقابلة وقفت تحت شجرة فى جنح الظلام؛ مُراقبٌ فى سكون، منتظرًا أية حافلة عابرة، ما الذى جعلنى أنزل؟.. الليل انتصف منذ مدة بعيدة ويصعب علىّ أن أجِدَ فى هذا الشارع أية مواصلة الآن.. أنا فى مأزق! ولكن بقى سؤال.. هل عاد الزمن بالعجوز للوراء فعلًا؟! هل اكتشف العجوز ما هو أثمن من نظريات أينشتين وفانتازيا آلة الزمن.. بكلماتٍ أُخريات: هل السن فعلًا "مجرد رقم" ؟!، شعرت بأننى أسرح بعيدًا عن هذا العالم، ليختفى وعيى مجددًا رغم الحضور.. والله وحده يعلم متى سيعود!
***
كان الشتاء- أو ملامسة الشتاء لجسدي- حتى أحسست بـ : رعدة/
ثم شممت رائحة عفنة ممتزجة برائحة حُلوة/
وسمعت: نقيق ضفادع، صرير صراصير، نباح كلاب ضلّت الطريق، هتافات شاحبة ودبات أقدام راكضة/
بَغتة عادت لى الصورة فوجدت أمامى: أسفلت، أرصفة تتحمّل عبء القمامة، حشائش مظلمة تفصل الجهتين، مصابيح نعسى/
العجوز.. أين ذهب العجوز؟!
مَنْ يبكى؟ لا بد أن أحدهم يبكى؟ هناك صوت نحيب!
***
بانتحاب متحشرج وبصوتٍ بالكاد يفارق الحنجرة أجاب:
أول ما لمحته كان مرميًا فى الشارع كالجنين، يواري جسده الصغير ارتفاع الرصيف، أخذت بيده حتى اعتدل وقعد على الرصيف، وبعد أن تمعنت لم أجد الكيس الأسود، ولوهلة شعرت أن الأرض تتشقق وأننا على مشارف نهاية التاريخ، ولكن الأرض كانت عنيدة صلدة كمثل قلوب هذه الأيام.
كنت أتمسك بيده اليسرى المرتعشة، أنا منحنيًا وهو قاعد يائس، وجدته يقول كمتهم برئ أمام السادة القضاة:
ثم مضى يفند لى فروق الأجيال، قال فيما قال جيلنا فاسد وجيلكم أجرأ، جيلنا أعْرَف بالأصول وجيلكم أجهل؛ أكثر اندفاعًا للحق وللضلال، للخير وللشر، وللعِند، قد تتشابهون معنا كثيرًا لكن ظروف الزمان جعلتكم تتناسون الأعراف وتضربون بالتقاليد عرض الحائط. وبعد أن أزاح كل ما فى صدره من كلمات، صمت لوهلة -والصمت مقلقٌ فى أحيان- حتى تمتم:
أصابتنى كآبة لم أعهادها من قبل، ووجدتنى تلقائيًا أنقده بضعة جنيهات –لا أتذكر بالضبط كم كانوا؟-، ثم أسندته حتى قام وتمشيت قليلًا مع أضواء الفجر الكاذب، لعلنى أجد مواصلة!
***
لمحته بعدها بكم يوم، من على بعد.. سمار البشرة، العين الطيبة، الوجه الأبله، الشعر الأشيب والنظارة المقعرة..
أخذ وقته ليتذكرنى، حتى انفرجت أساريره ورحّب بى أيما ترحيب، سألته عن الأحوال فأجاب:
ارتج بى العالم، لكنى واصلت الطريق بعد التحية، وتساءَلت: متى تنام القاهرة الحديثة ذات العمارات منخفضة السقف فى راحة بالٍ وتمزج؟! وهل تنام القاهرة!
مصطفى سلامه شافعي ..
31/08/2013