الشرقاوي محمد | مشرف سابق | كاتب قصصي في منتدى القصص القصيرة | حكم بمسابقة قلعة التحدي بمنتدى القصة القصيرة | ط§ظ„ظ…ط´ط§ط±ظƒط§طھ: 23355 ظ†ظ‚ط§ط· ط§ظ„طھظ…ظٹط²: 8453 |  | ظ…ط¹ط¯ظ„ ط§ظ„ظ…ط´ط§ط±ظƒط§طھ ظٹظˆظ…ظٹط§: 3.2 | ط§ظ„ط£ظٹط§ظ… ظ…ظ†ط° ط§ظ„ط¥ظ†ط¶ظ…ط§ظ…: 7271 | |
حَـانـَــة دُوســلــدورفْ
فيينا، 15 يناير 1978
مـع انزلاق الخيوط الأولى للشمس على مياه الدانوب الساحرة قـبل الغروب بهنيهات، ولج كرم حانة دوسلدورف، و انتقى طاولة على الطرف الأيمن من خشبة العرض، بالضبط أمام عازف البيانو.
نادى على النادل بهدوء، و طلب كأسا على شرف نزواته "النبيذية" الجامحة، و التي بدأت بنهش جسده مع كل همسة من همسات البرد القارس الذي يداعب خديه باستمرار، أو مع كل حنين لجسد
الراقصة النمساوية كاترين التي ستلتحق بأرض المعركة بعـد لحظات، لتدق المسمار الأخير في نعش من اختاروا إرضاء حرمانهم الجنسي هنا، بالموت أمام تمايل خصرها الجذاب
أو رزانة نظراتها العاهرة.
كعـادته، تجول كرم ببصره في أرجاء المكان للتعرف على ضحايا المعركة الليلية مع كاترين، فلم يوقظ حواسه غير تواجد شقراء هنا، هل هي زبونة جديدة حملتها مياه الدانوب إلى هنا ؟
هي شقراء مثيرة.
فتاة في العشرينيات من عمرها بدا من تصرفاتها أنها زائرة حديثة، أو ربما سِكيرة جديدة انضمت لهذا العالم الليلي المقرف الذي يـغدوا فيه الكأس سيد الزمان و المكان، مع اختلاف نوع الشراب،
كل حسب مشاكله أو كل حسب رغـبته في التعمق أكثر لسبر أغوار الثمول النبيذي المؤقت، و الذي غالبا ما ينتهي عند الخروج من الحانة و ملامسة البرد الصباحي النمساوي.
شقراء، بعينين واسعتين، أنف مستقيم، جسد جذاب حتى مع اختبائه خلف طاولتها و شفتين بلون الورد قد لا يناسبها مذاق النبيذ المر. أُعجـب بها، فقادته حاسته الجنسية إلى تغيير طاولته
و انتقاء أخرى بجوارها كان قد غادرها للتو رجـل أرضى رغبته "النبيذية" بكؤوس متتابعة، و أجل المعركة مع كاترين لوقت اخر، مع احترام المكان طبعـا،
و الذي تحترف فيه تلك العاهرة مهارة إسقاط الضحايا باستمرار.
بـعد دقائق طويلة من النظر المتواصل، أخرج سيجارة من النوع النمساوي الفاخر و تـعمد إخفاء الولاعـة في محاولة لطلبها من الفتاة، خاصة و أنها لن تمانع، من باب اللباقة النمساوية المعروفة،
بعد أن أشعلت هي الأخرى سيجارة من نفس النوع قـبله بقليل.
- أتسمحين بالولاعـة ؟؟
- طبـعا لا، كـن صريحا و لا تحاول إقناعي بقصة الولاعة.
توقف لسانه عن الكلام، لو يتوقع إجابة كهذه، هل كانت نظراته تحمل كـَبـْتاً دفينا إلى هذه الدرجة، أم أنها محاولة منها لإغراء نزواته الجنسية أملا في ليلة حمراء بمنزله ستستنزفه نقودا،
و وقـتا مع فتاة ليل.
هي الأخرى، أدركت ذهوله و استمرت :
- صديقك الذي كان على الطاولة قبلك ترك ولاعة فوقها، و من اغتالته الرغبة الجامحة في اشعال السيجارة سيرى في الكأس عودته للحياة، و سيرى بالتأكيد الولاعة الذهبية المربعة على يمينه.
أدرك أن ظنه لم يكن في محله، فسحبه، و استعاد هدوءه بعد لحظات من الذهول، فقال بصوت متزن، احتراما لبعض الشيب الذي بدأ يغزو شعره كترحيب مزعج بعيد ميلاده الأربعين بعد أيام :
- فلنقل أن رغبتي في التعرف عليك هي من قادتني لافتعال سبب تافه كهذا، لست مدمنا على التدخين، و لكني مدمن على رؤية الجمال الأوروبي، خاصة الأشقر منه.
- شكرا، ظننتك مدمن خمر فقط، إدمان الجمال جمالٌ و لكن احذر من النمساويات. أنا هيلدا، طالبة جامعية من هنغاريا، الضفة الأخرى للدانوب الجميل، و زائرة جديدة لحانة "دوسلدورف".
- أهلا بكِ هنا، أنا كرم من سوريا، أستاذ تاريخ بجامعة فيينا وعضو في رابطة الكتاب العرب بالنمسا. شكرا على النصيحة، غير أنني قد لا أكون مهتما بالنمساويات،
أحسست أن مشاعري ستكون هناك، على الضفة الأخرى من نفس النهر، سأطمئن عليها هناك أكثر.
- سأعتبرك زميل الكأس و سأحترم شرف المهنة، احذر من الأوروبيات أيها السوري، و على ذكر بلدك، أنت تتقن النمساوية بشكل رائع.
- أعشق لغة بلاد "الأوتريش" التي تمتزج ببعض الألمانية احتراما لسنوات من التحالف إبان الحرب العالمية الأولى، تماما مثل عشقي لحانة دوسلدورف التي أعتبرها لباقة نمساوية في التسمية
احتراما أيضا للجيش الذي انطلق من دوسلدورف و أعلن الحرب على روسيا لدعم النمسا بـعد حادثة سراييفو.
- لست متابعة جيدة للتاريخ النمساوي في قالبه السياسي، ما حدث قد حدث، و الحرب أخرتنا لسنوات. تشرفت بمـعرفتك سيد كرم، يبدوا أن دور الراقصة قد حان،
لنستمتع ببعض الفن النمساوي الأنيق قبل إكمال الحديث. فـوافقها الرأي، و استرسل في أفكاره :
هو أمام فتاتين مختلفتين تماما، هيلدا طالبة بريئة تستحق مغامرة حب ربما، رغم أنها تصغره بعقدين أو أكثر إلا أن نظرتها جمعت شيئا من الضفة الشمالية للدانوب، في أناقة الجمال الهنغاري،
و شيئا اخر من الضفة الجنوبية، كلباقة النمساويات و أدبهن في الحديث، و كاترين، المرأة التي تمتلك من الخبرة ما يكفي لتلهب احاسيس الحاضرين تجاهها و تحول جميع الأنظار نحوها،
و لا تستحق أي مغامرة حب، رغـم محاولتها التعرف على كرم في أكثر من مناسبة مضت سواء باقترابها من طاولته باستمرار أو محاولة لفت نظره إليها من خلال تصرفات عاهرة مكشوفة،
أكثر من أنها تستحق ليلة حمراء معه في شقته المطلة على قصر بيلفيدير.
بين هذا و ذاك، يستسلم كرم لأفكاره و نقاشاته مع نفسه، و ينسى أن خصر كاترين كان هنا، و ذهب، و جاء النادل لجمع الطاولة بعـد مغادرة جل الرواد.
حاسب النادل بسرعـة و سامحه في الباقي بـعد أن غطت جثته الضخمة طاولة هيلدا، و استعجله في الذهاب قبل أن يحلق في طاولتها ليجدها فارغـة، أين اختفت ؟؟
لـم يمهل نفسه وقتاً للتفكير في الجواب، نهض مسرعـا و حاول مغادرة المكان قبل أن يستوقفه النادل قائلا :
- هناك رسالة تركتها لك فتاة كانت جالسة على يمينك، تفضل.
أدرك أن الورقة هي لهيلدا، كانت ملفوفة بعنـاية و تحمل بقايا من عطرها، ربما تعمدت ذلك، فتحها وقرأ :
" لـم تكن صدفة، أعـرفك منذ زمن، و حضوري اليوم كان بغـرض رؤيتك للمرة الأخيرة لأنني سأغادر فيينا بعد ساعات. لـم أستطع أن أعبر عن حبي لك يومـا،
لن أعذبك في حب قد تبعثره قوارب الدانوب، أو قد تشيعه قمم جبال الالب، كل ما هنالك أنني أحببتك و أدركت أنني لن أكون لك يوما. تمنيتُ أن أترك هنا، ذكريات أفضل معـك،
أدركت أنك كهل مختلف عنهم، لم أشبع من النظر إليك كل يوم و أنت تغادر منزلك نحو الجامعة، أو تلج الحانة لإشباع رغباتك السكيرية، بالفعـل أحببتك، و لكن .... "
لـم يستطع استيعاب ما حدث، و أدرك أن أي محاولة بسيطة للإستيعاب ستكلفه صداعا سـتُشعله كؤوس النبيذ المتتابعة التي شربها الليلة على شرف هيلدا، و كاترين.
راقب عازف البيانو و هو يجمـع عدته بعد انسحاب كاترين منتصرة .... نظر إلى الورقة مرة أخرى .... قـلبها للجهة الثانية .... وابتسم لشبح هيلدا على الطاولة ....
انتهتـ الشرقاوي محمد،، بقـلمي.
|
|