الصديق
قصتنا تبدأ من طلاب المرحلة الثانوية ، بدأ تعارفنا بهمسات بسيطة كالعادة وبموقف بسيط ، ولكن كعادة الأيّام من موقف صغير تخلق لك شيء كبير ،
الموقف كان في مكان الدراسة حين بدأ نقاش حاد بيني وبينه عن الأوضاع في بلدي ، وبالفعل كان هناك خلافٌ كبير بالرّأي ،
وبعد فترة من التوتّر بيننا ، اجتمعنا لكي ننهي الخلافات ، بعد أن تكلّمنا بكل شيء اعتذرنا من بعضنا ، وتبادلنا عناق الصداقة ،
بتلك اللحظة بدأت قصّة صداقة كبيرة بيننا ، نذهب معاً ، ندرس ، نلعب ، نتشاجر ، فقد كنّا قلبٌ واحدٌ ويدٌ واحدة ، لم أكن أعلم أنّه سيأتي يوم في حياتي
أتخلّى به عن الحب مقابل الصداقة ، ولكنّ هذا حصل بالفعل ، بعد أن أنهينا المرحلة الثانويّة ، اتجّه كلّ منا في طريق ، هو درس الرسم الهندسي ،
وأنا درست التسويق وإدارة المبيعات ، وفي هذا الوقت اشتدّت الأحداث في بلدي ، وأصبحت النيران تأكل مدينتي ، وبسبب هذا أصبحت لقائاتنا قليلة نسبيّأً ،
بسبب الخوف من الخروج من المنزل ، وبعد فترةٍ قريبةٍ من الشهر ، اجتمعناً معاً قاهرين كل الأوضاع ، وللحظ السيئّ كنّا نمشي في شارع يطلّ عليه قنّاص ،
كان ذاك القنّاص يضرب كلّ من يمرّ أمامه ، وعندما أطلق القنّاص أوّل طلقة وقف صديقي أمامي وأصبح وجهه مقابل للقنّاص وبقي ممسكاً يدي ،
وأصيب بقدمه بطلقة من ذاك القناّص الّلعين ، لم أصدّق ما أرى ، فأسعفناه لمشفى قريب والحمد للّه كانت اصابته طفيف نسبيّاً ،
شعرت حينها بشعور غريب ، لقد حماني ، لو لم يقف أمامي لكانت الطلقة متّجهة نحوي!! ، سألته لماذا فعلت هذا؟ ،
أجابني : صديقي لو أصابك ذاك القنّاص وحصل لك مكروه سأبقى ألوم نفسي ، أمّا إن أصابني فهو قدر الله ، إجابته جعلتني أبكي ،
نعم ، إنّه الصّديق الحقيقي ، الصّديق الذي لا يمكنني أن أخسره في حياتي ، وهذا الموقف زاد من صداقتنا وأصبحنا نلتقي كلّ يوم ،
لا نسأل عن الخطر ولا عن أي شيء آخر ، المهم أن نكون معاً حتى نكون بخير ، وبعدها توالت المواقف ،
انفجارات ، صواريخ ، حرب كبيرة في منطقة سكنه ، ممَا جعله وأهله يهربون من منزلهم للسفر ، اتصلت به وقلت له تعال لمنزلي ،
رفض لوجود أهله ، وهنا أرادوا السفر ، فاتّصلت وصرخت : علي إن سافرت احذف رقمي من عنك ، فأغلق الهاتف في وجهي!!
وبعد ربع ساعة أخبرني برسالة أنّه في الجامعة ينتظرني ، وحين وصلت عانقني قائلاً : كيف أسافر وأنت تحتاج وجودي؟
وكل هذه المواقف زادت من صداقتنا بشكل أكبر وأكبر ، تعددت المواقف بيننا ، وكلّه كان يزيد في صداقتنا ، وهنا أصبحت أعلم معاني هذه المقولات:
الصديق عند الضّيق ، الصداقة كنز الحياة
أنهينا دراسة السنة الأولى ، كانت علاماتنا مميزة ، فأقمنا حفلاً مع بعضنا ، كان الناس يحسدونا على قوة الصداقة بيننا ، وقوّة الأخوّة التي تجمعنا،
حتى أهلي يقولون لي زوجتك على الهاتف ، وأمه تقول له : علي كلّم خطيبتك ، رغم السخريات لم نكترث ، حتّى أن خطيبتي أصبحت تغار منه ،
وحين اشترطت علي أن أكمل معها أو مع علي ، أجبتها علي قبل الجميع وانتهى! ، صمتت ولكنّها تقبّلت الأمر لمعرفتها السبب ،
وبعد فترةٍ قصيرة كنّا معاً عند الحديقة العامّة ، أخبرني أنّه مضطر للسفر لمدة شهرين إلى تركيا ، حاولت منعه ولكنّه أخبرني أنّه يجب أن يسافر ،
فأخاه يحتاجه بشدّة وقال لي إن لم ترغب لن أسافر ، ولكن ذاك أخاه فلم أمنعه ، وبالفعل جاءت اللحظة الّتي يجب أن أودّعه فيها ،
عانقته بشدة وأخبرته أنّي لأوّل مرّة أقوم بتوديعك ، سافر مرّتين لمدة قصيرة ولم أقم بهذا ، ولكن هنا لا أدري مالّي جعلني أفعل هذا ، وسافر،
أصبحنا نتكلّم على الفيس بوك ، واتس أب ، أي وسيلة المهم لا نقطع بعض نهائياً ، وبعد 6 أيام من السفر أخبرني أنه يريد العودة ،
أنّه اشتاق لي ولم يحب الغربة وهنا سعاتي لم أعطيها لأحد ، بكيت من شدة الفرح بعودته ، قال أنّه عائد بعد يومين ، وبعد يومين ،
جائتني رسالة مكتوب فيها :
مرحباً فيصل ،صديقك علي في العناية المشددة ، وقع على ظهره وكسرت عنده فقرتان
لم أصدّق ما قرأت ، بكيت ، ضحكت ، جننت ، لا أعرف ماذا أفعل ، كيف حصل هذا ؟
وبعد يومين عرفت أنّه دخل بغيبوبة ، أصبحت أصلّي ، أقرأ القرآن لشفائه ، حتى جاء ذاك الموعد المحتوم ،
رسالة أخرى فحواها:
فيصل ، علي توفي ، ادعو له بالمغفرة
انعقد لساني ، لم استطع الكلام ، كنت صائماً في رمضان حينها ، بكيت وبشدّة كبيرة ، لم أصدّق ماحصل ، كيف مات ؟ولماذا؟
وأنا بهذه الدوّامة عرفت أنّ وصيته أن أقوم بدفنه بنفسي ، وأنه قبل الموت فتح فمه وهو ينادي أريد فيصل جانبي ، بكيت بشكل كبير ، لم أستطع أن أكون معه ،
مات وهو بعيد عني ، لم استطع دفنه بسبب منعه من الوصول لحلب ،
انتابتني الحيرة كيف أخبر خطيبته ، ماذا سأقول لها ، كيف سأخبر الجميع ، كرهت يوم الثلاثاء لأجل وفاته ،
انهالت عليّ الاتصّالات في المساء من أصدقائه في الرسم الهندسي ، هل الخبر صحيح ؟ ماذا هناك ؟
وأكبر ألم في حياتي أنّي كنت أواسيهم ، كنت صاحب الجرح الأكبر و أواسي من يبكون عليه ، لا أريدهم أن يبكوا ، فهو يتعذّب بالبكاء ،
اقرأوا الفاتحة كي يرتاح ، لا تجعلوا صديقي يبكي وهو ميت ، دخلت في صدمة واكتئاب شديد ، ولكنّي تذكرت كلامه قبل السفر بيومين :
فيصل ، إن مت وأنا شاب لا تحزن علي ، فإحساسي يقول لي أني سأموت شابّاً ، ظننته يمزح ولكن بالفعل هو توفي ، التقيت بأهله بعد عودتهم ، أخبروني بأنّه كان يبكي في غيبوبته
عندما قالت له أمّه أن فيصل وشيرين ( خطيبته ) يحتاجونك ، أنّ شيرين نجحت في الثانوية بفضله ، كان أصعب مواقف حياتي ،
توفي وترك خلفه صديقاً لن ينساه ، مات في يوم ميلاد خطيبته ، مات في الشهر الكريم ، مات وهو لا يدري كيف سأكون من بعده ،
رحمك الله يا صديقي وأدخلك فسيح جنّاته ، لا تقلق ، فـ فيصل سيبقى قويّاً كما تعرفه وأكثر ، سأقرأ لك الفاتحة كلّ يوم ،
سأزور قبرك حين تأتي الفرصة ،
صديقي الغالي ( لن أنساك ما حييت )
أرجو من الأخوة الكرام قراءة الفاتحة على روحه..