
كان النحيبُ يلبسُ سكون تلك الليلة الصيفية، ورياحها الساخنة تلك كانت تنبعث من ألسنة جهنّم التي أوقدها الجيران. ردّدوا نفس السؤال وأجابوا آلاف الأجوبة.
‘‘لا نُصلّـي عليهما.. أجل أجل، لا نفعل !’’
كانت دموعه تشق سبيلاً في الغُبار الذي كان على وجهه فقد عاد قبل حين من المقبرة بعد إتمام الحفر. حفر قبرين جنب بعضهما في يومٍ واحد.
يتذكّر سيف الدين جيّداً كيف كان يمازحه أكرم يوماً قائلاً (أنا وأنت نموتوا مع بعض ويدفنونا في قبر واحد..) ويتذكّر كيف ردّ عليه (لمّا أنت تموت، صفية شكون يتزوّج بيها؟ )..
في غمرة الحزن تأتينا الابتسامات حين نتذكّر أوقاتنا السعيدة التي قضيناها رفقة أشخاصٍ ما توقّعنا في يومٍ أنّنا مُعرّضـون لفقدانهم، لكن حين يحدث ونفعل، فإنّنا لا نملك إلاّ أن نسترجع تلك الأوقات السعيدة، نُذيبها في كأس الألم ثم نتجرّعها وإيّاه، علّها تُعطيه طعماً أقلّ مرارة..
سيف الدين وأكرم، الصديقان التوأم أو (الرُوونْدَا) مثلما كان يُلقّبهما أبناء الحيّ، فالـ(روندا) مُصطلحٌ يُستعمل في لعبة الورق، يدُّلُ على تشابه ورقتين.
يُقال ‘‘صاحب الحظّ في لعبة الورق غير محظوظ في الحبّ..’’ كأنّ صديقينا كانا محظوظين في الورق؟ !
...
طرق أكرم الباب عدّة طرقات.. فتحت له فتاة تبدو في الثانية والعشرين، غضّة البشرة، خَوْخِية، خدّاها مثل قطعة من سماءٍ عانقت شمسها، قدّها طويل، رقبتها مغزولة مثل خيزرانة تشقّ أهداب الأحراش، في عينيها كان يُبحر السحرة والمستكشفون والدُعاة إلى أرض العذرية المُباركة.
سبحت هي الأخرى في أحداق ذاك الواقف أمامها علّها تستكشف أراضيه التي أتى منها لكنّها سُرعان ما استطردت..
- نعم ! بمَ أخدُمك؟
امتزج ردُّ أكرم عليها بالفراغ، وبحشرجةٍ كتلك التي عند الاحتضار أرفقها بحمحمة يليّن بها أوتار صوته الخشن..
- آسف.. أنا السبّاك الذي أرسل في طلبه والدك، قد أصلحت العطب ووددتُ لو تشغّلين المضخّة لأتحقق من حُسنِ صنيعي..
انبعج خدُّ الصبية فانجلت على سفحه ثغرة شهية وانشقّ في وجهها صُبح ابتسامةٍ عسلية..
- قصدك زوج خالتي.. لا عليك، بإمكانك المغادرة الآن فإن تبيّن أنّ التسرّب لا يزال قائماً، أَرْسَلَ السي مصطفى في طلبك ثانيةً.
...
الحُبُّ لا يغمز، لا يهمس ثم ينفكّ، لا يُعانِق ويذر، الحبُّ يضُمُّك، يخنقك، حتى إذا ضاق نفسك، يتركك للحظة، يُذيقك لوعة الشوق، ثم يعود إليك، ينفث فيك المسكنة واليُتم والحرمان. هو ينمّق لك الصُدف، هو يصنع لك الفرص، يرتّب لك المواعيد، يفرش لك الأرض بَتِلاّتِ نُعمان ويغطّيك بلحاف السماء، ثمّ يسقيك من خمرته التي عتّقتها أرجل الحنين، يسقيك أنت ومن تُحب كأساً من النشوة، ومن العناق، يدعكما تثملان، تتناعسان، ثمّ ومثل وسادة، يحلّ ثالثكما، الحبُّ شيطان..
مرّت فترةٌ على الحبيبين لم يلتقيا، فاتّقدت في أحداقهما شُعلة الشوق واحتبس خلف شفاههما وهج الحنين.
ثوانٍ فقط هذه المرّة كانت تكفي شهريار حتى يروي لشهرزاده أجمل رواية ويزفّ لها أحبّ نبأ إلى قلبها، خبر موافقة أهله على خطبتها له، كان سابحاً في سمائه ذلك اليوم وأراد لحبيبته أن تُرافقه إلى تلك السماء أين سيخلّدان ثوانيهما القليلة ليلةً أخيرة بعد الألف ليلة وليلة..
...
تعالت أصواتُ النحيب، صارت أقوى من ذي قبل.. ‘‘ إنّهم يُخرجونه.. الميّت’’..
امتزجت الكلمات مع فضول السبق، ولؤم الظّن وبراعة السرد وقوّة التحريف التي يتمتّع بها البشر..
سِيقَ النَّعْشُ إلى سيّارة كان خلفها مكشوفاً، ركب أخُ الميّت جنب السائق وفي الخلف كان كلٌّ من إمام الحيّ وسيف الدين يتوسّطهما أكرم مُستلقياً بين أضلع نعشه.
النعش الذي سيرحل بشهريارنا إلى سماء الخلد بعد أن هوت به ثوانيه القليلة تلك إلى أرض الخطيئة..
دُفنَ أكرم، وبجواره دُفنتْ عشيقته، دُفنا بتهمة الدنس، طُمِرا بحكمِ الريب، هُما هُنا يرقدان، لا يرقد معهما دَمهما، إنّهُ هُناك، يضرّج أثواب الوشاية بالضمّةِ تلك، ضمةُ الفرحةِ بسماع خبر الخِطبة، ضمّةُ الحبِّ الظّاهرةِ على آخره...