لطالما أحرق الفرص التي أُتيحت له، وأحرق كلّ إمكانية للصدف والأقدار.
يتذكّر جيداً كيف كان يرتّب مواعيداً في الصدف فقد كان يتحيّنها ويتقن حبكتها في مُخيّلته، ولكنّها حين تأتي كان يتركها ويمضي مؤجّلاً بذلك كلّ خطاباته التي حضّرها إلى الغد، إذ ذاك تكون إمّا قد انتهت صلاحيتها، أو قد افتقدت لسحرها، فيملّها ويرمي بها في درجٍ كان يضع فيه خطاباته التي لم تُنشر.
بعودته إلى ذلك الدرج سوف يجد رزمة لا بأس بها من الانهزامات، انكسارات في الحبّ، سيجد كيف أنّه لم يُحسن التصرّف، لقد كان في مرّةٍ جباناً وفي أخرى غبياً وفي أخرياتٍ أبلهاً ومتعجرفاً ..
لكنّه قرّر هذه المرّة أن لا يجعل من فرصته هذه خطاباً منسياً في درجه.
...
كانت الفتاة طالبةً في السنة الأولى وكان هو على مشارف التخرّج، تذكّر أنّه بصدد تحضير تربّص وأنّه يحتاج إلى أستاذٍ مؤطّرٍ يكفل له إلقاء دروسٍ تدريبيةٍ.
لقد فكّر في أستاذةٍ سبق أن درّسته في السنة الأولى، فبالإضافة إلى كون علاقته بها لم تزل طيّبة، لم يكن لغيرها أن يكفل له جوّاً ملائماً فهي التي كانت تُدرّسها وذاك لا محالة سوف يعطيه مقاماً عالياً يمرّر به خطابه الذي لا يريده أن يكون خاسراً ولا مرمياً في أدراج النسيان.
سوف يكون أُستاذها إذاً، لفترةٍ ما، وحتماً سوف يلفت انتباهها، إذ ذاك لن يكون لها أن ترفضه أو تصدّه، هكذا كان يُفكّر دائماً.
...
بقي كذلك لفترة، يصل متأخّراً إلى الكلية، يجوبها في دقيقتين، يفتّش عن مكان يتموضع فيه بعيداً عن الجعجعة.
منتظراً الحصّة، كثيراً ما كان يأخذ من ذلك المضيق خلف قاعة المحاضرات مأخذاً لراحته النفسية، لم تكن تلك الطريق خلف القاعة تؤدي إلى شيءٍ غير موقفٍ للسيّارات التي كان يركنها الأساتذة والإداريون وبعضٌ من الطلبة من أبناء وبنات الأثرياء.
كانت ساعة يده تشير إلى العاشرة إلاّ الربع، يفصله الآن ربع ساعة عن موعد المحاضرة التي ينتظرها، المحاضرة التي تراجع عن حضورها لِمَا حلّ به من كسل ذلك ما جعله يكسر روتينه وعلى غير العادة توجّه إلى نادي الطلاّب، هناك طلب فنجان قهوة وجلس إلى إحدى الطاولات في الركن.
اختار أن يرمي في فنجانه ثلاثة قطع سكّر، أرادها قهوةً حلوةً تُسكّن وجع رأسه وتبعثُ فيه شيئاً من النشاط، ثم أخذ يحرّك قهوته وما إن انتهى وضع الملعقة في فمه وكانت تلك عادته كلّما أتمّ تحريك قهوته.
صادف قيامه بذلك دخول فتاته تلك إلى النادي بصحبة رفيقتها فكان أوّل ما فكّر فيه هو مذاق قهوته كم كان حلواً، ألسكّرٍ زائدٍ كان، أم لسِحر تلك الفتاة شأن..
ألقت تلك الفتاة نظرةً سريعة صوب الطاولة أين كان يجلس، التقى بصرهما للحظة، ثم امتنعت عنه واستدارت إلى الخادم تطلب عصيراً وبسكويتة، ثم واصلت الحديث إلى رفيقتها.
لقد كان أغلب ظنّه بأنّها انتبهت إلى تواجده، وأنها قد تذكّرته فهو طالب السنة الرابعة الوحيد الذي كان يحضر محاضرات السنة الأولى، وكان ذلك غريباً.
هي لم تتذكّره، ولا انتبهت لوجوده أصلاً، بينما كانت إذ ذاك تُلقي نظرةً إلى الساحة عبر النافذة التي كانت خلفه مُباشرةً.
لم تكن لديه أيّة خصوصية تجعله لافتاً للانتباه، فلا كان لون عينيه العسلي الفاتن كافياً لجعله يبدو مرغوباً لدى الفتيات ولا كانت لديه ملامح ثراءٍ أو حتى يُسرُ حال، بل كان لبسه متواضعاً ينمّ عن فقره وعن بيئته التي أتى منها.
...
فلسفة الأماكن في الجزائر تمتلك حيزاً كبيراً من الاهتمام، فالجهوية والتعصّب لا مهرب منهما.
لا تجد جزائرياً لا يتهكّم على الآخر، أنا شرقي وأنت غربي، وأنت قبَلي وأنا بحري، كلّ يتفاخر بكونه - ولد البلاد - وكلٌّ يدّعي أنّك إنّما تقاذفتك البوادي إلى المدينة.
...
كان لها ما طلبت ولصديقتها كذلك، حملتا نفسيهما إلى طاولة بالقرب من طاولته يجلسان إليها. كان كلامهما مسموعاً لديه وهو الذي أقفل أذنيه على دردشتهما علّه يلملم شيئاً من صوتها.
فقط في تلك اللحظة، سُمع رنين هاتف، إنّه هاتفها، أخرجته من حقيبة يدها، فتبدّلت ملامح وجهها إلى النضارة،ابتسمت ثم أعادت الهاتف إلى الحقيبة، أخرجت مرآتها وأخذت تُعدّل مِكياجها، ثمّ وبهمسةٍ في أذنِ صديقتها ودّعتها، أو ربّما قالت شيئاً آخر ثمّ غادرت المكان..
كغير المتحكّم في خُطاه، هرول يقتفيها، لم يجد كيف يتفادى الزحام عند المدخل الرئيسي للكلية، فما كان عليه إلاّ أن سمّر نظراته عليها وقد صارت في الخارج، ثم انغمس داخل (عجقة) الطلاّب..
(Pardon monsieur ! Excuse-moi mademoiselle !) كان يتجاوز الطالب تلو الآخر، نظره لازال مسمّراً بها خيفة أن يفقد أثرها، هو يراها الآن تعبثُ بشعرها، كأنّ شيئاً قد لمع في إصبعها اليسار !..أخرجت نظاراتها الشمسية، لبستها وما كادت تفعل حتى ركنت بجوارها سيّارة فاخرة، ألمانية الصُنع، بيضاء ثلجية، فُتح لها الباب، ركبت بجانبه، شابٌ وسيم، طبع على خدّها الأيسر ختم شفتيه، أشارت إلى ساعةِ يدها، كأنّها تُخبرهُ بأنّه تأخّر عليها، أو ربّما قالت له أسرع،سنفوّت الموعد.. لم يكلّمها وانطلق بها..
أُسقطَ الفتى بأرضه.. أَذْهَبَتْ عنه رؤيته لذلك المشهد القدرة على التنفّس، غاب عن العالم لدقائق، ثمّ وبشهقة واحده رُدَّ إليه، كانت زحمة الطلبة تلك قد لفضته إلى الخارج، هو الآن شارد، ينتظر باص الجامعة، يُقلّه إلى إقامته الجامعية المقرفة، ثمّ منها إلى -من حيث أتى- إلى باديته، إلى عالمه...
هُناكَ فقط نجوم ليلةٍ هادئة سترُدُّ إليه بَلادَتَهُ، ونيازكها ستُحرق صورة فتاته تلك التي لم يكن لها محلاًّ في أحلامه..
بقلمي: محاولتي الثانية، هي قصّة مطوّلة نوعاً ما،
حاولت تقصيرها قدر المُستطاع حتى لا تُصابوا بالملل..