لحُكم البراءةِ استئناف..
قلّ ما كان يروي لي قصصه، ففي كلّ مرّة أردت أن أستدرجه إلى بوحٍ ما، كنت أجد نفسي قد أُفرِغتُ له، فيما لم أخرج من مجلسه بغير العبارات المنتقاة بعناية فائقة من فلسفته التي كان يسودها الكثير من الغموض وبعضٌ من الحزن.لقد كان بارعاً في التنويم والاستدراج، لم يكن ليُستدرَجَ إلاّ في لحظات معيّنة، حين يريد هو... حين يكون في قراره الحزين.
كان يطأطئ حين يروي لي قصّته مع الانكسار فكأنّه كان يعود ليلبس أثواباً قديمة لكلّ رواية يرويها، وكان يحرّك بشيءٍ ما في يده ويرسم خطوطاً على الرمل ويقرؤها كمن يقرأ خطوط كفّه.
لقد كان صوته خافتاً يكادُ يُسمع، كأنّه لم يكن يودّ لو تصير رواياته مسموعة، أو كأنّه كان يغازل الصمت في محاولة لعدم الابتعاد عنه كثيراً.
كان يتكلّم حين صمته وكان يصمت حين الكلام، ففي كثيرٍ من المرّات كانت تكمل نوبات صمته عنه القصّة وكانت نظراته الحزينة وتنهيداته تدوّن الحوارات التي كانت تدور أثناءها، وكان فنجان قهوته يؤرّخ لها.
...
أذنبت تلك الصديقة حين صدّقت عينيه، لم يكن أبداً صدقاً ما كانت تنطق به عيناه، بل كانتا في خبثٍ تقتنصانها ثم تتركانها في لبس وحيرة.
لم ينكر أبداً بأنّه ومثل من يحفر حفرة لأخيه، قد وقع في شركها. لم تكن هي كذلك تلك البلهاء التي يأكل القط عشاءها، بل كانت تنجح في كثيرٍ من المرّات في جعله يعترف لها بفشل بعض تمثيلياته المعروفة، التي كانت له فيها أدوار غير المبالي والمتأنّي.
لقد كان اعترافه لها بحدّ ذاته انتصاراً لفلسفته التي كان يفرضها، بل وكان أيضاً مشهداً ناجحاً غير مشكوكٍ فيه في تمثيليته التأني والصبر.
هو لم يكن يودّ معها الحبّ، بل كان يعشق فترة جسّ النبض التي تسبقه، وكان يودّ لو يتأنّى قليلاً ولو أنّ الحبّ لا يأتي.
إيمانه بفشل كل قصص الحب الكلاسيكية جعله يبحث كيف بإمكانه أن يعبث قليلاً مع الحب، في جولة كرّ وفرّ، كان يراود الحبّ، يداعبه ثم يختبئ، وكان يجعل لعبثه ذاك مذاقاً رائعاً كمذاق قطعة (شكولاطة) حين يتلاعب بها في فمه.
...
قال لي بأنّه رآها يوماً تعبر الطريق، في مشيتها كان ارتباكٌ كبير، وكأنّها أدركت أنّه يراقبها، يراقب كلّ خطوة تخطوها وكلّ فكرةٍ ترسمها. التفتتْ، انتظرتْ ونظرتْ ثم واصلت المسير..
كانت قد رأته، فألبستْ شفتيها ابتسامة حزينة، لم تكن مثل كلّ الابتسامات، لقد كانت رسمية أكثر، في اكتراثٍ للمارّة وما يقولون...
سألها كلّ الأسئلة، وأجابته عن كلّ الأسئلة، وجرى بينهما حديث...
- كيف أنتِ؟
- مثلما ترى، (عايشين)..
لقد فاجأته بتلك الإجابة، وتمنّى لو كانت إجابتها كذلك رسمية.
- ما معنى (عايشين)؟ سألها محاولاً التخفيف من حدّة التوتّر.
- معناها أنّني بخير. لم يتغيّر شيء..
لقد كانت كلماتها تتساقط من شفتيها دونما رحمة، كانت تحاول أن تنتقم لكنها كانت إذ ذاك تعزّ عليها رؤيته ينحصر في الزاوية.
ردّ عليها محاولاً الإفلات
- لم أفهم !
- أحقاً لم تفهم أم إنّك تُريدني أن أُطيلَ الحديث؟
لقد كان كذلك، يودّ لو أنّها تواصل الحديث، لكنّها أعقبت سؤالها بكلمة وداعٍ وانصرفت إلى مضجعها وإلى دموعها..
غادر المكان هو كذلك، وغادرت معه كلّ المبرّرات الزائفة، وكلّ المشاجب التي كان يعلّق عليها عباءته السوداء التي كان يلبسها في جلسات المحاكمة التي لطالما برّء فيها نفسه من جريمة الهجر..
غادر هذه المرّة وهو متيقّنٌ أنّه من غرس زهرته ومن رعاها ومن اجتثّها..
بقلمــي: مُحاولتي الأولــى في الكتابة القصصية،
لا تؤاخذوني عليها ولا تحرموني نصائحكم