تنفس َ الصعداء وقال بنفسه : أخيرا ً سأحظى بنوم عميق ، ها هو قد انهى عمله المتراكم على مكتبه .. وقررّ ان يعود للبيت ،
كان َ يكره ركوب السيارات وضجيج المدينة .. يفضل المشي في أزقّة مختصرة يصل بها أسرع على حد اعتقاده ، لكن في أعماق أعماقه كان يعلم ان ذلك لس هو السبب ..
وضع معطفه على كتفه وانطلق َ ، كان الجو حارا ً بعكس الصباح .. الشمس تداعب وجنتيه بأشعتها الدافئة ..
في طريق عودته كان يمرّ بحانة لا يعيرها اي اهتمام ، لكنه شاهد فتاة تدخلها .. فتاة بعمر الزهور ، ما بها حزينة هكذا ؟ ملامحها باهتة للغاية ..
ارتطم فجأة بشخص وهو يمحلق بها ، فشتمه وكادت ان تحدث مشاجرة ولولا ان قامت الفتاة بتفرقتهما لحدث أمر رهيب ،
فور وصوله البيت ، رمى معطفه جانبا ً ورمى جسده المنهك على احدى كنبات الصالون ... ايييه بلغت الأربعين وتبدو صحتك كأنك بالثمانينات !
كانت الأغراض متناثرة هنا وهناك ، ملابسه مكومة ارضا ً وأواني لم تُغسل ، كان في كل يوم يمسك تلك الصورة المعلقة ، صورة زوجته وطفله ، يمرر اصبعه ٌ بحنية وتسيل دمعة منه ,
ركض قطّه الأسود ليجلس عند قدميه .. يبدو انك اشتقت َ لي يا عزيزي .
اشعل سيجارة ، واحتسى قليل من الخمر ِ ، يبدو ان عجلة الذكريات لا تريد ان تتوقف ، استرجع ضحكات طفله، رائحة زوجته في الأنحاء ، لمساتها حين تداعبه وتخبره كم ان تلك اللحية تجعله وسيما ً ..
ها قد نمت لحيتي عزيزتي ولست قادر على حلقها ، فاين انت ِ ؟ واحتسى قدحا اخر من الخمر ..
تذكر مشية طفله الحديثة ، خطوة خطوتين ويسقط ليبكي ، فينطلق ليحمله على رقبته ويدور به البيت كله ، ليمتلأ البيت ضحكات ٌ .. قدح ٌ أخر من الخمر لن يضر شيء !!
لم تتوقف دموعه وبكى كأنه لم يبك ِ من قبل ، طُرق الباب فجأة .. ترى من هذا الأحمق ، أين زوجتي ! أين طفلي ؟ اين ذهبوا ؟ انطلق للباب ، وقفت بيديها النحيلتين ، بالكاد تقف على قدميها ..
نظرت اليه وقالت : اعددت ُ حسائك المفضل ، ثم ارتسمت على وجهها ابتسامة دافئة .
منذ يوم وفاة زوجته وطفله بحادث المرور ذاك ،تكفلت رعايته هاته العجوزة الأرملة ، قلبها كان كبيرا كفاية لتتحمل عبىء طفل كبير ، جعلته الحياة روحا فارغة .
نظر اليها نظرة غريبة ، دفع ما بيدها ليسقطها ارضا ً ، لا اريد ان اراك ِ مجددا ! اغربي عن وجهي ! زوجتي ستطهو لي اليوم وسأتناول العشاء مع عائلتي .. لكنك جئت ِ ورحلوا هم .. يا لك من عجوز غبية ..
واغلق الباب بوجهها .
كان يومه التالي عصيبا ً للغاية ، وبخه ّ المدير على تأخره عن العمل وتراكم الأعمال على مكتبه ، اعتذر منه بشتى الحجج ، لكنه هدده بالفصل ان تكررت مثل هذه التصرفات .
- اللعنة عليك ْ !! اللعنة عليكم جميعا ً .. لا تنظروا الي ّ .. كان دماغه يكاد ينفجر بالأحاديث والثرثرات اللتي لم ولن يبوح بها يوما ً .
عاد متثاقلا للبيت ، طُرق بابه فجأة .. من هذا يا ترى ...
- احضرت ُ لك حسائك المفضل ، وخبز قمت هذا الصباح بصنعه لك ، اعلم انك لم تتناول شيئا البارحة ..
دعاها للدخول، كانت تلك المرة الاولى التي يفعل بها هذا .. أجلسها على كنبته ،جثا على ركبتيه باكيا، يطلب منها السماح على ما فعله بالأمس ْ ..
أخبرها عن نيته بأنه سيتغير ّ ، بأن تتركه هاته الأوهام التي تراوده .. ويترك الخمر ْ .. والتدخين ..
ابتسمت العجوز ونظرت اليه وهي تربت على شعره كما لو كان طفلها
- سامحتك يا بني، ولكن عليك الان ان تجد من يساعدك وينقذك من هذا الوضع ...
نصحته بالذهاب لطبيبة نفسية ، تعرفها شخصيا ً، ودلته على المكان .
اتجه باليوم التالي بعدما طلب َ من مديره اجازة .. حصل عليها بصعوبة اراق بها قليلا من كرامته ، لكن التغيير يستحق ّ ..
انتابته الرهبة عند وقوفه على باب العيادة.. هل حقا ً سأتغير؟ هل حقا طرقت الباب الصحيح ، فجأة فُتح الباب ..استقبلته الطبيبة ودعته للدخول ..
ما دار بينهما من حوار افقده صوابه .. كانت اسئلتها كأنما تعبث بجروحه .. ايقظت مشاعر دفينة وذكريات مؤلمة ..عزفت لحن الاسى على اوتار حساسة في قلبه وروحه المعذبة .
تحوّل لكتلة مشاعر متأججة .. كتلة من الغضب والحب .. بكى كثيرا ً .
تريدني ان انساهم؟ هذا مستحيل ... كان يرى الطبيبة تتكلم طلاسم ، بينما تفكيره ذهب َ حيث ُ هم .. يشتاقهم كثيرا ً .. وتلك الصورالتي منحته سعادة وهمية مؤقتة ..
- لكن لا ... لن أتخلى عن ذكرياتي ابدا ..
خرج غاضبا ً يركل كل ما يصادف طريقه .. عالقا في دوامة الماضي ،غير قادر على تقبل الحقيقة ،أنه مهما فعل لإبقاء نفسه سجينا للماضي فإن هذا لن يرجع احبته للحياة ..
مر على ذات الحانة الواقعة بالقرب من بيته ،هذه المرة لم يتجاهل الصخب الذي ينبعث منها ،وصراخ الفتيات والقهقهات المتعالية الواردة من وكر الخراب هذا .
قادته قدماه الى ذلك العالم الذي لا هويات فيه ...لا احد يوبخك على افعالك ويسألك عن الفواتير والمصاريف ...لا احد يعرفك او يكترث لذلك.جلس الى طاولة في الزاوية ..دخن سيجارته الاولى بعد تلك الوعود الفارغة التي قطعها على نفسه بأن يتوقف عن ادمانه .
حضر المشروب ،او بالاحرى سم الحانة الصاخبة ،داء المدينة ودواء القلوب الضائعة والمجروحة ،في اعتقاد سكانها ..تناوله دفعة واحدة واخذ يطلب المزيد ..
شعر بيدها تمسح كتفه ..همست في اذنه: اهلا بك الى عالم النسيان بين ذراعاي لا قيمة لهمومك ... لا داعي للتوتر انت هنا فقط من اجل الاستمتاع بوقتك وليس التفكير في هراء حياتك..
استدار ليشاهد فتاة يافعة جميلة هي نفسها التي فرقت بينه وبين الرجل في ذاك الشجار.. جميلة، مثيرة .. لحظة ..هل اعرفها سابقا؟ تبا لهذا المشروب ..اني حتما أتوهم ...لا انها هي !
نظرت اليه باستغراب فهي ايضا تعرفت عليه ...كيف لا وقد كانا احبة في زمن ما ....صفحة ما من دفترة حياتها معا ،صفحة قد طويت في مفترق طرق.
توترت ،اصطدمت بالنادل واوقعت الشراب على طاولة المقامرين والتي يجلس عليها اصحاب البطون المتدلية والجيوب المملوؤة
وبخها صاحب الحانة ...حملت اغراضها وغادرت، لحقها الى الخارج ،وجدها جالسة تحت المطر الغزير الذي افسد مظهرها المنمق ..اذاب القناع الزائف الذي ترتديه .
وضع معطفه الدافئ فوق كتفيها ،ثم اخذها اخذها الى شقته ...
-تردين سيجارة ؟
-نعم رأسي يكاد ينفجر .
قهقهات هيستيرية ،احاديث متشابكة واعترافات يائسة .. سألها بنبرة مترددة :
-لماذا تغيرت ؟؟
-لم افعل ، ماذا تصنع عندما تترك في منتصف الطريق؟؟انت بنيت حياتك وتزوجت وحصلت على وظيفة احلامك ،وانا تدمرت حياتي ووقعت في المشاكل ولم انجو من الفقر البتة وكان هذا الحل الوحيد .
-زوجتي وطفلي توفيا وعملي جحيم يطبق على جسدي هذا ولم اعد اشعر بطعم الحياة ..
-قدرك هكذا ....وقدري ان اكون فتاة الملهى ...ماذا تتوقع مني ان افعل غير هذا في مدينة كهذه ؟؟
نظرة صادقة شعور حقيقي ...بعد كل تلك السنوات التي امضتها وهي تؤجل مواجهة مشاعرها وتكتفي بالمظاهر الزائفة .
غادرت الشقة ..قلبها هناك خلفها ، روحها بحوزته ،لكنها تسرع بخطواتها نحو المجهول، الى احضان المدينة المعتمة .
هو يرجو لقاءها مجددا ،وهي تتهرب منه ومن ماضيها وحياتها وحبها وكل شيء .
مرت الايام .. وظلت العجوز بمحاولاتها اليائسة ان تقنعه بالتغيير مجددا،هذه المرة التزم بوعوده و محى الفصل الاسود هذا من حياته
عاد الى الحانة يبحث عنها ...عن شظية من شظايا حياته القديمة المبعثرة ..عاد مراهقا بنفس جديد .. يريد العودة الى تلك الحياة قبل ان يصبح زوجا ،رجلا في عالم الكبار .. اخبره صاحب الحانة انها استقالت ولم تعد تعمل هناك
اختفى طرف الخيط .لا يمكنه ان يجدها هنا ...
- هل تبحث عني ؟؟
-اين اختفيت ؟
ردت عليه ، بإنفعال ،بغضب :
-ليس سهلا ان تجدني ؟كنت لتسأل اي شخص مار في الشارع عن فتاة الملهى ... المخدر الشائع الذي نزل في اسواق بيع الكرامة ..تبحث عني ؟؟ تجدني عندما يصير العالم زجاجة خمر تتمايل امامك وانت في قمة الثمالة
-لا ...لم ارك هكذا ولن افكر فيك هكذا ...اعرف انك لست هذه الفتاة التي تصفينها الان .في مكان ما داخل روحك ...لا تزال الفتاة التي احببتها تركض في رياض الحرية ...فراشتي التي تزين الحياة ببراءتها ..
احتضنها .. وهمس فس اذنها :التغيير .. هو ما تحتاجينه ، قد نكون البيادق التي تحركها اشباح المدينة ، ،لكن منذ هذه اللحظة، سنسيطر على الرقعة ونغير واقعنا ..فليس علينا ان نكون دمى المدينة الحالكة بعد الان ..