(نشوة المستقبل)ملهى ليلي فتح أبوابه حديثا في قريتنا الصغيرة يرغمها على السهر في أحضان الموسيقى الصاخبة
ينقل إليها نشوة الحضارة والتقدم من مكان بعيد..
كان موعد اجتماعنا بعد منتصف الليل.. ليلة الأول من ماي عيد العمال لمناقشة سياسة الشركة في المرحلة القادمة..
قمنا بحجز الجناح الخاص برفع المعنويات نحن الأربعة فقط:
أنا الحاج ربيعصاحب الشركة الخاصة بالتجارة في كل شيء..
المستشار القانوني للشركة، والذي كنا نلقبه بـ: (حوت فمـ ـه مفـ توح) لبراعته في قلب النصوص وإعادة صياغتها..
المحاسب المالي (زيد صفر) ورئيس نقابة العمال (خالد النعجة)..
على أنغام موسيقىالراحل حسني(وعلاش قتلتوه، لميمة بكيتها وعبد الله يتمتوه) اجتمعنا على طاولة عنوانها
العريض أم الخبائث ملونة بألوان الحياة، عتيقة من عهد الاستعمار وحديثة قد صنعت قبل أسابيع..
وعناوينها الفرعية أوراق اللعب وأطعمة وكناش لتدوين الملاحظات..
على المنصة حيث تخطف الأضواء الأبصار كانت الفتيات الراقصات كل واحدة منهن
تحرك جسدها وفق تقاليد موطنها الأصلي تحاول مجاراة النغمة الرايوية الخاصة بنا..
أربع فتيات وأربع أوراق في يد كل لاعب يحاول أن يبقيها غير مكشوفة حتى نحافظ متعة الجماعية للعبة..
أكلنا حتى مللنا نوعية الطعام، وشربنا حتى خالطت أحلامنا اليقضة، وضعت يدي على خدي
وأنا أتفرج على فتاة في مقتبل العمر مملوءة الجسد تدور من حولي..
يهتز كل جزء منها على حدة تعرض رقصتها الشرقية الهجينة..
أخذت نفسا عميقا.. تنهدت ثم قلت:
- الموسيقى فن.. الرقص فن.. والتجارة فنون..
أخذ المستشار(حوت فمه مفتوح) زجاجة خمرة وأدخل فمها في فمه رفع رأسه إلى الأعلى..
- قرط.. قرط.. قرط..
شرب منها دفعات كانت تهبط مع قصبة حلقه كأنها تتدفق في قناة لصرف المياه القذرة.. ثم انتزعها من فمه وقال:
- والله أنت محق.. علينا مناقشة مشروعنا التجاري القادم..
تنحنح المحاسب(زيد صفر) ثم قال محاولا أن يستعير كلمات راشدة أثناء الثمالة:
-يا جماعة.. لدينا تاريخ حافل في التجارة، لقد تاجرنا في السياسة، الإدارة، الرياضة، النساء، المخدرات، الجنس، المعنويات...
-اسكت أيها الأخرق، زد صفرا ثم صفرا ولن تسكت للصباح.. فهمنا.. فادخل في المفيد..
أسكته بعدما تيقنت أنه سيضيف الكلمة إلى الكلمة دون أن يشعر مثلما يضيف الرقم إلى الرقم دون ضمير..
-المهم.. في أي مشروع تجاري عليكم أن لا تنسوا اليد العاملة يا إخوة.. والرأي منك وإليك يا مولانا الحاج الربيع..
كان هذا رد(سعيد النعجة) رئيس النقابة، رده غير مهم وكذلك رأيه لأن النعجة في الأخير ستتبع الراعي إلى الزريبة..
صفقت بأطراف أصابعي مشيرا إلى الدي جي بإيقاف الموسيقى وإلى الإماء بالانصراف إلى حين فقد حان وقد الجد..
-لقد تبادرت إلى ذهني فكرة جهنمية سنكسب من خلالها ثروة طائلة، خاصة وأننا سنسبق الزمن ونقوم بالتصنيع
وعندما يدرك الجميع بالحاجة الماسة لذلك المنتوج سنخرجه جاهزا وصالحا للاستعمال الفوري... ما رأيكم؟؟؟؟
- ما هي الفكرة؟؟ ما هي الفكرة؟؟
نظرت إلى بعيد أحاول أن أستحضر صورا حقيقية وأنا في حالة من وهم الثمالة وقلت:
- لا شك أنكم تتفقون معي إذا قلت أن العالم صار مجموعة من الأيدولوجيات والنظريات تتحرك في أطر تنظيمية مختلفة..
قطع علي تفكيري (حوت فمه مفتوح) وهو ينظر إلي بطريقة غريبة يوحي إلي أنني أتحدث بلغة غير مفهومة..
- أرجوك لا تنظر إلي بهذه الطريقة فأنت تشعرني بالــ......
- لا.. لا.. أكمل لا تهتم بي إن لم أفهم هذه التفاصيل.. رد علي بضحكة ميتة ليقول (سعيد النعجة):
- لا تهتم يا الحاج الربيع، احكي ولا داعي لتهتم بأن نتفق معك، فالأمر والقرار كله لك ونحن ما علينا إلا السمع والطاعة..
سكتت برهة، ابتسمت ثم قلت:
- أرى الجميع يتحدث عن القيادة، القادة، القائد، التأهيل القيادي، فنون القيادة، الإدارة القيادية... ألخ.
بعد سنوات سيصبح لدينا قادة كثر جدا، ومؤهلون للرئاسة لا يحصى عددهم، سيختل السلم التصاعدي للقيادة..
تفاعلت مع حديثي عن الحدث كأنني أعيشه، بدأت أحرك يدي كأنني ألمس المستقبل القادم في نظري..
- سيبحث الجميع عن مكان يقودون فيه، سيصبح الجميع معاليم..
نظر إليسعيد النعجةبغرابة وقد جحظت عيناه وفتح فاه مستعدا لبلع سرب من الذباب الضال:
- حاشا لله أن نبحث عن مكان آخر، حاشا لله أن نطمع بأن نكون قادة في حضرتك..
جعلني كلامه أبتسم وأنعته بالأحمق في نفسي قبل أن أقول:
- دعني أكمل كلامي يا رئيس نقابة العمال..
سيختل البناء الهرمي للقيادة ويصبح هشا، سيحتاج إلى قاعدة، سيحتاج الجميع الذي سيصبحون قادة إلى جنود
ونحن سنوفر الجنود لكل من يرغب بالقيادة، سيقصدنا الجميع، مهما كان مستواهم،
كل من له فكرة في رأسه سيحتاج إلى جنود وسيطرق أبواب شركة ربيع للتجارة في كل شيء
وسيشتري منا الجنود وسيدفع أغلى الأثمان.. هاهاهاهاهاهاها
وقمت أضحك بغرور وأنا أستقرئ الثروة الطائلة القادمة في المستقبل.. قبل أن يقطعني المحاسب المالي:
- لكن يا الحاج الربيع، من أين لنا بالجنود، بل بالكم الهائل من الجنود..
- لا تقلق لدينا الوقت للتفكير في طريقة لتصنيع الجنود.. اللهم احفظ لنا شعب الصين الذي يصنع كل شيء
واحفظنا نحن الذين نتاجر في كل شيء..
وصفقت ثانية معلنا للديجي بالعودة إلى الأجواء الصاخبة وإلى سرية رفع المعنويات المتمثلة في الفتيات الأربع
بالعودة للرقص والإثارة فقد حان وقد العمل الجاد أيضا..
بعد ليلة صاخبة في الملهى.. والنوم في أحضان فتاة مستوردة من إحدى مقاطعات الاتحاد السوفياتي سابقا
عدت إلى المنزل وأنا أحدث نفسي قائلا:
- الحمد لله أنني لم أنم في أحضان تلك الجنية الملاك وإلا لفضحني عطرها الباريسي فور دخول المنزل..
وأنا داخل منزلي مع أذان الفجر قابلت ولدي(إخـــلاص) لدى الباب متوجها إلى المسجد:
- صباح الخير يا أبي.. وابتسم في وجهي..
- صباح الخير بني.. أحاول أن أبدو على أحسن حال..
وخرج من نفس الباب الذي دخلت منه... توجه إلى الصلاة وتوجهت لإكمال نومي وجزء من حياتي بجانب زوجتي
التي ألفت وتأقلمت مع طريقتي في العيش..
كانت ليلة متعبة فكريا وجسديا، خاصة وأنني قمت بمراجعة أسماء الدول الإشتراكية دولة دولة وأنا في حضن فتاة الملاهي..
نمت ولم أفق إلا بعدما انتصف النهار في عطلة عيد العمـــــــال..
وعلى طاولة الغداء.. وجها لوجه مع ولدي (إخلاص).. سألته قبل أن يسألني:
- ماذا فعلت بالأمس بعد صلاة العشاء؟؟؟
نظر يمنة ويسرة ثم قال:
- في الحقيقة.. لقد حضرت اجتماع مع أعضاء الكشافة الإسلامية.. سنقوم بحملة رسكلة البلاستيك.. نجمعه ثم نبيعه
لمؤسسات إعادة التصنيع، ونشتري بالمال المقابل كراسي متحركة لذوي الاحتياجات الخاصة في قريتنا..
بعدها كان علي حضور اجتماع آخر مع بقايا الحزب الشيوعي.. سننظم ندوة حول خطورة استثمار رأس المال في الملاهي على المجتمع...
ثم عدت إلى المنزل...
وقبل أن يقول ماذا عنك؟؟ سألته ثانية:
- وماذا فعلت اليوم بعد صلاة الفجر إلى الآن؟؟
ضم شفتيه ثم قال:
- اليوم حضرت درسا في المسجد حيث قام الإمام بتفسير حديث (النهي عن المنكر) ثم خرجت وقمت برفقة بقايا من الحزب الليبيرالي
بحملة تنظيف لشوارع القرية، ثم انتقلت للمساهمة في تنظيم محاضرة مع بقايا الحزب الوطني حول الروح الوطنية ودروها في التنمية
وبعدها قمت بتعليق ملصقات خاصة بحملة نصرة النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم لصالح بقايا من الحزب الإسلامـــي
وها أنذا أتناولي غدائي مع والدي العزيز وسأتجوه لتجهيز قاعة المسرح في المركز الثقافي الذي سيحتضن هذه الليلة مسرحية حول الحريات
تنظمها بقايا من الحزب الديمقراطي...
نظرت في هذا الولد الذي أشك أنه نتاج دعوات خير من أحد أجداده، فلا أنا ولا أمه نصلح لأن نكون أبويه..
- والله أنت أحمق يا إخلاص.. هؤلاء يستغلونك في مخططاتهم السياسية وأنت مجرد ساذج تتبع إخلاصك.. ما محلك من الإعراب بينهم؟
وأنت تنتقل من مكان إلى مكان، على الأقل لو ترقيت ووصلت إلى منصب سياسي مع أحدهم.. على الأقل ستجد لنفسك مكان في المستقبل..
فابتسم ثم قال:
- لا تقلق.. يا أبي.. أنا أعرف ماذا أفعل..
- طبعا تعرف.. فأنت جندي وحيد وفوقك سبعون قائدا من كل التيارات وكل الاتجاهات..
فابتسم ثانية.. هز رأسه ببطء يمنة ويسرة ثم قال:
- أبي.. هذا اسمي أمامك والهرم لا يمكنه أن يمشي مقلوبــا.. لا يمكنه أن يقف على رأسه..
السلام عليكم عليّ أن أسرع..
وانصرف من أمامي مسرعا بعدما أدخلني في دوامة جعلتني أعزم على أن أتخلى عن كل طموحاتي وعن ماضي وحاضري ومستقبلي
لو صار في كل المجتمع بعض من ولدي (إخلاص)..
***********
ربيـــع