على طاولة العشاء اجتمعت عائلتنا المتواضعة، نادرا ما نوفق لاجتماع تقليدي مثل هذا..

طبق الكسكس.. مرق الدجاج، ترفع أمي الغطاء عن فم القدر الكبير فيتصاعد البخار بكثافة

في الزاوية يتكلم الصندوق الثرثار الذي يعيد نفس الصور ونفس الوجوه في كل مــرة..

لم تعد قناة يتيمة وحيدة، لقد انضمت إليها أخوات كثيرات وصار التلفاز ميتما بحق..

- اجتماعنا اليوم على المائدة معجزة حقـــا..

هذا ما استهل به أبي جلسة العشاء.. لتبتسم أمي وتقول:

- خديجة.. طالبة جامعية كثيرة المطالعة، مجتهدة في دروسها..

ترسم السعادة بسمة عريضة على محيى أختي فتقول مقاطعة أمي:

- في الحقيقـة.. أحب خلو الجو من الإزعاج حينما تهرعون إلى العشاء فأتوجه للمطالعة وحل التمارين والواجبات..

أنظر إليها وأنا أشعر بالغيظ والغيرة تحدثني نفسي بأن تفعل شيئا آخر غير المطالعة في ذلك الوقت بالتحديد..

- يا ليتني أستطيع أن أسأل الهاتف .. أخاطب نفسي بعد أن أتنهد..

- حتى ربيع يمضي الليلة متسكعا بين الأزقة والمقاهي ولا يدخل إلا بعد منتصف الليل..

تحدث أبي ثانيــــة.. فاحمرت وجنتاي خجلا بعدما شعرت أن يعرف بعض الأشياء المتعلقة بالتسكع عني..

نشرة الأخبار والواقع السياسي المتكرر، النوايا الحسنة والأفعال السيئة، وقصص ألف ليلة وليلة أحزاب تولد

وأخرى تهرم تمرض بالسرطان بالإيدز لكنها تأبى أن تموت، أخال بعضها كشيخ طاعن في السن، يحجز مكان على سرير

في المستشفى، في قاعة الاستعجالات، تحت رقابة خاصة خشية أن يموت فجأة، خيوط السيروم، وأسلاك الإنعاش...

وأنابيب لاستخراج الفضلات.. ثلاثة أيام.. شهر.. عام.. عقد.. ثلاثة عقود.. لم يشفى ولم يمت...

يزحف الشريط الإخباري الأحمر أسفل الشاشة من اليسار إلى اليمين، أتتبعها وأنا أحرك شفاهي دون الجهر من القول:

- أعيد انتخاب السيد ـــــــــــــــــــــــــــ، رئيسا للحزب ـــــــــــــــــــــ، للمرة الثالثة على التوالي..

ثم يظهر الرئيس القديم الجديد وهو يشكر الثقة التي وضعت فيه ويعد بالتغيير ودفع المسار الديمخراطي إلى الأمام..

خبرٌ آخـــر لا يقل غرابة عن سابقه:

- قام السيد ــــــــــــــــــــ، بتأسيس حزب ـــــــــــــــــ بعدما خسر انتخابات رئاسة حزبه السابق..

يظهر الرجل وهو يترجى أن تسهل السلطات في منحه الاعتماد، حتى يتمكن من خدمة الشعب سياسيا في أسرع وقت ممكن..

أخيرا انتقلت الشاشة اليتيمة إلى الشارع.. حيث ظهر رجال أقواء مفتولوا العضلات وقد عروا صدورهم..

وحبسوا أنفاسهم لتزداد عضلاتهم ظهورا وقوة.. قربهم كان مجموعة من ضاربي الطبول ونافخي الأبواق..

ونســاء جميلات يتراقصن بألبسة مزركشة على الأنغام الصاخبة.. وأمامهم يمشي زعيمهم وهو يحمل إشارة مرورية

بعدما أزال محتواها وكتب محله (التغييــــــــــــــر سون سمـــار)..

ما زلنا في لعنة السياسة نسمع أخبارها المتكررة في التلفاز الميتم.. يرفع أبي رأسه ناحية التلفاز ثم يقول:

- طفي علينا هذا (الشيت) فقد شبعنا مقروط..

لقد فقد أبـــي أعصــابه.. أذكـــر أنه هو السبب في ندرة اجتماعنا على الطاولة.. فإما يفرقنا التلفاز أو هـــو..

آخر مرة تلفظ بلام بذيء من الدرجة الثالثة بعدما اجتاحته موجة من الغضب وهو يرى أحد زعماء الأحزاب

يعد بتوفير رحلات مجانية إلى سطح القمر تمنح للشعب الزوالي فقــط.. وعندما عاد إلى وعيه لم يجد أحد معه على الطاولــة..

- الواقع المؤلم موجة كبيرة، يمكنك أن تغطس تحتها، أن تتجاوزها أن تجعلها تتكسر على جسدك.. ويمكنك أن تركبها وتسير معها حيث سارت..

جملة غريبة تلفظت بها أختي الصغيرة فنظر الجميع فيها نظرة ازدراء وقلت أنا:

- حينما يتكلم الكبار على الصغار أن يسكتوا وينتبهوا للدرس..

تحياتي

مادام الحاسوب مستجيبا