أيــام مفتونة جعلت الشمس تبلغ كبد السماء دون أن ينتبه إليها أحد، تختفي الظلال بسرعة قبل أن تعود للتمدد
حينما تدق الساعة منتصف النهار تتدفق الإدارات والمؤسسات ككيس ثقب لتوه، فتخرج الحشود نحو المطاعم
والمقاهي والبيزيريات...
أما هو فقد كان يتضايق في هذا الوقت.. إذ يضطر لتحويل مكانه في كل مرة حتى لا يتعثر فيه أحد المارة
الذين تهبط أعينهم إلى بطونهم التي تكاد تتكم من شدة الجوع..
أفقدته الحرارة المتزايدة شهيته للطعام، فصار يمضي أغلب أوقاته نائما يتبع الظل في تقلصه وتمدده
ممدا على الأرض مرسلا رأسه بطوله مخرجا ذلكا اللسان الأحرش المليئ بالتشققات ولا يسمع إلا صوت لهاثه..
يحرك مقلتيه ببطء يديرهما وهو يتبع خطوات فتاة أو فتى، هو لا يهتم بالجنس بل ينظر في الجميع وتحدثه نفسه
عن الجميع بأحاديث تكمن أغلبها في (ماذا لو هجم علي هذا البشري المار من هنا؟)
يرغب في النباح لكن التعب النفسي والجسدي قد تمكنا منه، فيغمض عينه ببطء كأنه سيبكي، ليبقى ذلك الوجه الكئيب
الذي تعلوه أنف سوداء كبيرة فيها بعض الجروح يحكي قصة معاناة لكلب كان في يوم من الأيـــام حارسا لابنة الزعيم..
ما إن يغمض عينيه حتى ينتقل بذاكرته المثخنة بالجراح إلى الماضي إلى القصر الفخم المتمثل في منزل خشبي
يتوسط حديقة منزل الزعيم.. حيث كان يتناول اللحوم أكثر مما تتناوله عائلة فقيرة مكونة من خمسة أفراد..
كانت ابنة الزعيم فتاة رشيقة القوام، جميلة الوجه حسنة الصوت، تحسن اقتناء الثياب والعطور..
لا زال يذكر مقدار ارتفاع كعبها العالي عن الأرض، ويذكر سروال الجينز الأزرق المحكم على الساقين الجميلين..
يدخل لسانه إلى فمه فجأة ويحرك فمه الطويل بطريقة غريبة كأنه يضحك ما إن تزوره فكرة مـــا..
كم كان أحمقا حينما وقع في حبهــا وتمنى لو يتمكن من احتضانها والنوم معها في سرير واحد، كم كان أحمقا
حينما فكر في لو أن هناك منظمة تدافع عن حقوق الحيوانات الراغبة في إقامة علاقة زوجية مع البشر..
- كل شيء ممكن، ها هو معبد من المعابد البشرية يوافق على زواج المثليين.. لن يطول الأمر حتى ينتقل الأمر إلينا
وأتمكن من معاشرة ابنة الزعيم)
هذا ما كان يرقع به ثقوب صبره حينما يتسلل اليأس إلى قلبه، خاصة بعدما رآى بشريا اسمه (البوي فراند)
يسبقه إلى المكان الذي عزم على الوصول إليـــه..
يفتح فمه ويرسل عواء كأنه يستغيث وهو يستذكر لحظات الألم، حينما كان يقف عند الباب ويتركها
مع المدعو بوي فراند في غرفة مغلقة، أصوات ضحكاتهما الهستيرية تقطع قلبه، يشم بانفه رائحة الأندرينالين
المتزايدة، يهز رأسه يمنة ويسرة كأنه يرفض الأمـــر..
يقوم متثاقلا من مكانه، يفتح فمه كشراع سفينة يتثاءب ويسير ببطء تتمايل مؤخرته المحدودبة على سيقان ضعيفة نحيلة
يقترب من بركة مياه على حافة الطريق المعبد حديثا، ينزل رأسه ليشرب من الماء المسود من أثر التلوث
يرسل لسانه إلى الماء ويبدأ باللعق...
- آه على زمن المياه المعدنية في منزل الزعيم، وآنية الذهب والفضة..
هكذا يحدث نفسه قبل أن يرفع رأسه فجأة بعد أن بلغت أنفه رائحة معتادة.. ينظر إلى الناحية الأخرى من الطريق
حيث تظهر كلبة سوداء أبيض بطنها، تظهر أطباؤها الثمانية وقد اسودت من التعب والملل وكثرة الخلطاء..
يتدلى رأسها كأن عنقها النحيل كره من حمله وتمنى أن يقطع حبل الوصل بينهما..
ينظر إليها الحارس السابق، يحاول تحريك ذيله عساه يستعير ساعة من ساعات الشباب، فلا يستطيع
كأن عظام الذيل أصابها الصدأ، أو ربما صارت الرغبة في الإناث أضعف من أن تحرك ذيلا يائسا..
يتذكر تلك (الكانيشة) البيضاء، ذيل قصير منتصب، تسريحات مثيرة حيث كانت الحلاقة الخاصة تتفنن في ذلك..
أحضرتها ابنة الزعيم وصارت تعتني بها أكثر مما يعتني الزعيم بمن هم تحت زعامته..
كانت الكنيشة مثيرة حقا، أفضل من هذه الكلبة النتنة التي يفصله عنها الطريق،
غير أن كانيشة ابنة الزعيم كانت مدللة ومتأثرة بالحضارة الغربية، لم يكن الوفاء من ميزاتها.. فرغم ما عاشه معها من قصص عشق
وغرام وهو يحاول التقرب إلى صاحبتها بعيدا عن الأعين.. إلا أنها لم تراعي فيه العشرة، ولا المالك المشترك.. بل خانته مع
مع (دوبرمان) كبير المقاولين الذين زار البيت في يوم من الأيام..
حملت الكانيشة وتوجهت أصابع الاتهام إليه، فهو الكلب الوحيد في المنزل، وتحركت الألسن البشرية بلغتها المعتادة...
- ذلك الكلب الفاسق، عليه اللعنة، كيف قام باغتصاب هذه الأنوشة المسكينة..
التصقت به التهمة، وطرد إلى الشارع لهذا السبب..
يسرع الخطى ويحاول مجاراة سرعة السيارات حتى يقطع الطريق ليلتقي بالكلبة السوداء الهرمة.. تأتي سيارة مسرعة
يقودها فتى يافع على المقعد الذي بجانبه كلب سمين كبير الرأس.. يضغط الفتى على دواسة البنزين حت يزيد من سرعته
ما إن يرى الكلب يحاول قطع الطريق.. يضربه بقوة لتمر العجلة الخلفية على رأسه وتنهي قصة الألم والرغبة..
لم يأخذ الحارس الشخصي من السيارة إلا صورة الكلب الذي كان بجانب السائق، حيث بدا كأنه ينظر في المرآة
يشبهه تماما، وعسى أن تكونا قصتاهما متشابهتان تعلنان عن دوران الزمن في عجلة تعيد كثيرا من الأحداث وتنقلها من مكان إلى مكان..