انقضت أيام الحداد في القبيلة بعدما توفي الزعيم الروحي..

قبيلتنا متدينة، في العادة يدوم الحداد ثلاثة أيام، لكن بما أنه الزعيم فالأمر مختلف

لقد دام حزننا عشرة أيام، انتكست فيها الأعلام، وجفت الأقلام، واستراحت الأحلام..

اليوم ستعود الحياة لمجاريها لكن قبل ذلك هنالك طقوس لابد من القيام بها..

أولا ستتلى وصية الزعيم إلينا.. وللحظ قد اختاروني أنا لأتلوها على مسامع القوم بعدما احتشدوا

في الساحة العامة..

فتحت الصندوق وأخرجتها، ترتعش يدي من شدة المهابة.. كنت أصور لهم ذلك على الأقل

حتى لا أعاقب ولا أتهم بازدراء المقدسات.. فتحتها وبدأت أقرأ من كلام الحكمة:

- يا قوم.. إن الحياة فيها شر كثير، شكونا فيها قلة الخير، وندرة النصير، أغلب الناس تمكن منهم الحسد،

لا يرعون الحق إلا إذا كان لهم فيأتوا إليه مذعنين، وإن خالفهم تحايلوا وتمايلوا حتى لا يقبلوه، يا أبنائي

لا تنتظروا أن يعطيكم أحدا حقكم، فكل الناس تتحايل لمصلحتها.. لذا فراعوا مصالحكم بأنفسكم واخشوا أن يحيف

عليكم أقرب الناس إليكم.. خذوا وطالبوا بالمزيد، ولا تترددوا فلن يعطيكم خصمكم حقكم إلا ما دمتم عليه قائمين..

أنهيت الوصية الثمينة التي جعلت الدموع تذرف والعزائم تشحذ.. انتبهت إلى رقم مثير للريبة كان مكتوبا بطريقة غير

مفهومة على الهامش اليمين ورسمة للطاحونة الهوائية على الهامش الشمال...

حفظت الرقم وسلمت الوصية لأهلها وأسرعت الخطى ناحية الطاحونة الهوائية الوحيدة في القرية..

بدأت بالبحث والتنقيب.. فتشت كل ما يخطر بالبال وما لا يخطر به.. فوق تحت، يمين شمال.. هنا.. هناك..

فجأة.. رأيت أسلاكا غريبة تمتد من الطاحونة إلى الأرض.. اقتربت.. ضربت برجلي.. أحسست أن هناك فراغا ما

- لا شك أن هناك قبوا أسفل هذه الطاحونة..

أزلت التراب الممزوج بالطحين، ثم فككت الألواح الخشبية وقفزت إلى الأسفل.. تتبعت الأسلاك إلى أن:

لقد كان شيئا غريبا جدا.. لوح خشبي كبير عليه أرقام من البلاستيك، مثبت على صفيحة معدنية فيها ثقوب كثيرة..

بدون أن أشعر بدأ الرقم المحفوظ في رأسي بالخروج، فمددت يدي أضغط على الرقم تلوى الآخر بقوة حتى أنهيت ما حفظت..

فجأة صوت رنين قوي كان يخرج من تلك الصفيحة المثقوبة.. ليبدأ بالكلام...

- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. ما هذا الشيء الغريب..

لقد كان صوت الزعيم، فتخيلت أشياء مستحيلة.. قبل أن يقاطعني..

- أهلا.. سي الربيع.. أظنك فهمت الرسالة..

ارتعبت فرائسي وشعرت بخوف شديد..

- يا زعيم.. أنت ميت ولا يمكنك الحديث.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..

- يا الربيع.. لا.. لقد كانت خطة لأتخلص من الزعامة، كرهت ذلك الكرسي اللعين.. حياتي كلها ضاعت، ثلثها أمير

والثلث ولي عهد، والثلث زعيم.. أعددت خطة للهروب.. أنا أحدثك من هاتفي النقال الجديد.. أنا في جزر هواي برفقة

زوجاتي الأربع..

- يا زعيم.. هاتف.. هاواي.. لم أسمع بهذه الأشياء من قبل..

فقاطعني قائلا:

- دعك من ذلك، أردت أن أحدثك بخصوص الوصية.. والله لقد كتبها أحد أجدادي واستحيت أن أغير فيها شيئا..

كل ما فيها هراء، الدنيا لا تزال بألف خير، وأغلب الناس يمتثلون للحق، ولا أحد منهم يحسد الآخر..

خذ حقك الذي تراه من حقك وأنقص منه قليلا حتى لا تحيف على الآخرين.. وعش حياتك وأنت مطمئن..

والذي تشك أنه من جماعة خذ وطالب فابتعد عنه ولا تخالطه.. باي عمو ربيع.

- ربيع.. ربيع.. قم.. أيها الكسول.. حان وقت العمل..

لقد كان مجرد حلم..

- آه يا سياسة خذ وطالب، لو يطبقها كل فرد من المجتمع...