السلام عليكم

حقائب ذلك اليوم بدت معلّقة على مشجب الأفق، حُمرة الشفق حاكت لون الدم تلك الأمسية. لقد أمطرت قبل دقائق ثمّ ظهرت الشمس كئيبة بين الغيوم الداكنة، رفعت أذرعها النورانية مودّعة ما قُدّر
للحظات ذلك النهار أن ..تحمل.
كانت (سراب) الوحيدة التي بادلت تلك القطعة الصفراء الحارة ترانيم الفراق، كانت تنظر إلى المساحة البعيدة وراء نافذة غرفتها العالية.لم تقدر منع بصرها عيش لحظات الجريمة، لحظات طعن الظلمة
جسد الضياء وصبغ لوحة السماء بدمه.. لم تستطع منع نفسها عيش ما بدا على هيئة دقائق أخيرة..
ضربة قاسية على خشب الباب أيقظت الفتاة- صاحبة الثامنَ عشرةَ ربيعاً - من أحلامها، ظهرت الأم..
لم تتركّب الملامح فوق وجهها بشكل جيد، حينما قالت :" سترافقيني غدا"
" لا..لا أستطيع. أميّ، لا تجبريني أرجوكِ"
متجاهلة ما صدر للتو من فاه الإبنه.. أجابت الأم، قالت كمن يعتقد بأنّ ما يلفظه أمرٌ واجب التنفيذ، كمن يعتقد بجهل الطرف الآخر مصلحته:
" إنّها ملابس الـ.." عجزت الأم عن إكمال جملتها.سيطرت لوهلة تضاريسُ ضعيفة على محيّاها..
واضعةَ ما كانت تحمله فوق السرير، أردفت جاعلة الواقع كلّ ما يمكن رؤيته..الإحساس به وإطاعته :
"نحن فقراء الآن.عفواً، دعيني أعيد صياغة الجملة..نحن معدمتان"
ارتفع رأس الأم قليلا كأنّها تصارع لتقبّل ما تقوله، فيما انخفض بصر (سراب) ليصطدم بالبلاط..
"والدكِ الغني فارق حياتنا للأبد، كلّ الأصدقاء أداروا لنا ظهرهم، أقاربي توقّفوا عن الاتّصال..لقد علموا بخسارتنا كلّ شيء.لا توجد سواي وأنت وسط كلّ هذا.واجهي الأمر بشجاعة.."
" توقّفي، أرجوكِ" نطقت (سراب)، كانت تعلم ..كانت تتوقّع كلام والدتها لكن سماعه كان قاسٍ..قاسٍ مؤلم.
تدحرجت دمعة،سالت من مقلة الأمّ ثم انحدرت لتقع. بدت كنقطة ماء غادرت الغيم العالي لتهوي نحو القعر، نحو المجهول.
"لقد وافقتْ إحدى العائلات في الحي على توظيفنا"
" كم هم لطفاء! " قاطعت (سراب) حديث أمّها ساخرة ثمّ تابعت:
" كم تبدو تلك الكلمة محترمة.. (وظيفة)!"
" الثامنة صباحاً، سنقضي في منزلهم أربعَ ساعات يومياً" ردّت الأم بطريقة مهينة لابنتها التي بدت ألفاظها منفعلة..
فتحت هذا الأخيره فمها ولكن ما من حرف صدر عن حلقها، لقد استطردت الأم متوترة:
"احرصِ على ارتداء تلك الثياب، إنّها..إنّها.." عجزت الوالدة عن الكلام، اختنقت أنفاسها ..لم تسقط دمعة، بل سبّالة من الدمع الخشن الجارح للخد.
"إنّها ثياب الخدم" أكملت (سراب).
حينها، حينها فقط انصرفت الأم، بدت غير قادرة على تصنّع الجلد أكثر من ذلك...
هوى رأس الابنة حتّى لامس ذقنها عظم التُرقوة تحت رقبتها، انستر وجهها بين ثنايا شعرها الطويل، كانت مصدومة..موجوعة كفاية لتفيض مياه بصرها وتعمي كلّ شيء..وقعت على ركبتيها ناشجة.
بدا الأمر مشابهاً لتقبّل المستحيل، للقفز من على منحدر شاهق..من الانحناء بذل تحت أقدام الأنام، تحت نعلي الزمن.
رفعت مُقلتيها بجهد، حَبَا بصرها حتّى وصل الخزانة الصغيرة بجوار السرير. رمقت صورة والدها المنصوبة فوقه..لم تقدر لومه رغم أنّها أرادت أن تجد من تحمّله ما أصابها..
شهقت بقهر، صرفت وجهها عن الأب البريء بعد أن أحسّت أنّها تُخطيء، أنّها تخدش ذكراه في قلبها. زار نظرها محيط النافذة.لقد سافرت الشمس القتيلة بعيداً، زال الضياء المذبوح. بدا الأفق معتماً،داكناً..
ومبهماً.
ولكن..ووسط تلك اللوحة العمياء، وجد بصر (سراب) طريقه نحو النور..تعلّق ببريق نجمة شقّت رحم اليأس العقيم لتلد أشعة الجمال..والأمل.
ارتسمت على شفاه الفتاة اليائسة ابتسامة مُربكة..بدت كمن يضحك باكياً. ظلّ كيانها يحملق إلى الشيء الوحيد المتفائل، إلى تلك البعيدة التي هاجر نورها قروناً ليواسي يتيمة، إلى تلك التي تحدّت ظلالا لا متناهية
كحيلة، إلى التي تلألأت عظيمة، ولو وحيدة.. إلى تلك المسماة : (نجمة غروب سعيدة)
أحمد