بسم الله الرحمن الرحيم
القصة ...
- هل ترى الشاب الذي يحمل حقيبة بنية صغيرة على كتفيه وسط تلك المجموعة من الطلبة ؟ إنه هو ...
قال أحد رجلين لمرافقه ، وقد خرجا من مسجد الجامعة لتوهما .. سكت الرجل الثاني برهة ، وهو يحدق في الشاب المختار بعينين حادتين أشد من تحديق نسر جائع لفريسته .. و الشاب لا يعلم أن أربعة عيون غير عادية تراقبه ،
و تعد عليه حركاته وسكانته لأمر يجهله حتى الساعة ... و أخيرا نطق الرجل الثاني بعد دقائق من الاختبار بصوت مهموس ، وهو لايزال يحدق فيه :
- ما اسمه ؟ و ما مستواه العلمي ؟
أجابه رفيقه بسرعة :
- اسمه محمد ، وهو الآن في السنة الجامعية الرابعة في قسم البيولوجيا ... وهو طالب نجيب ، لا يتغيب كثيرا عن دروسه حسب مراقبتي الدقيقة له ....
أخذ الرجل الثاني - الذي يبدو عليه الهدوء - نفسا عميقا ، وقال :
- حسنا .. هل أنت واثق من أنه يصلح للأمر الذي نخطط له ؟
بدون تردد أجاب الرجل الأول :
- نعم ، يا شيخ عبد الواحد ، أنا واثق من ذلك تماما ، و أستأذنك في المضي معه في الخطوة الثانية ، فحسب ترصداتنا الأخيرة له ، تبين لنا أنه جاهز للانضمام لنا ...
بكل هدوء قال الشيخ عبد الواحد ، وهو يهم بالانصراف :
- مادامت مجموعة الترصد موافقة بالإجماع على انضمامه ، فلا مانع لدي ، ولكن خذوا حذركم ، لا نريد أن نقع في أخطاء نندم عليها لاحقا ، كما حدث من قبل . حفظكم الله من كل مكروه ....
محمد شاب في الثالثة و العشرين من عمره ، كان ككثير من الشباب في مثل سنه ينبض بالحيوية ، و أحلامه في الحياة لا تنتهي ، ربما لا يحققها في قرون لكثرتها !!.. لكن بسبب ظروفه الاجتماعية الصعبة ، صار
متشائما و انطوائيا، وينظر للدنيا بنظرة سوداء قاتمة .. و ذلك بعد و فاة والده الحاج عبد الله الذي عانى كثيرا بسبب مرض السرطان ، و طرح على كاهن ابنه البكر محمد هموم و مسؤولية العائلة الثقيلة ..
عائلة محمد مكونة من ثمانية أفراد ، ثلاثة ذكور ، و أربعة إناث ، و أمه الحاجة فاطمة الزهراء ... و الذي يتعب محمدا الآن كثيرا ، ويرهقه، وصية والده رحمه الله التي لا تكاد تفارق كلماتها الحزينة سمعه المرهف ..
فقد أوصاه برعاية العائلة من بعده ، بكلمات قليلة ، لكن معانيها كبيرة جدا :
- يا بني محمد ، أنت رجل العائلة الآن ، أوصيك خيرا بأمك ، و أخواتك البنات ، الله يرضى عليك ....
كلما تذكرها محمد ، اغرورقت عيناه ، وترحم على والده ، وحاول أن يكون قدر المستطاع الرجل الذي تمناه والده ... لكن القدر كان يخبئ له منحى آخر ، لم يكن يتوقعه بتاتا ، ولو في أسوإ أحلامه ...
كل يوم تقريبا ، وبعد رجوعه من الجامعة التي بدأ يتبرم من الدراسة فيها ، يدخل غرفته التي يقاسمه المكان فيها أخواه الشقيان علي و مراد ، و يجلس أمام حاسوبه الذي يحرم لمسه على الجميع ، ليخرج من عالم الأحزان
و المشاكل الذي تاه فيه ، ولم يعد قادرا على التناغم معه كما كان ، إلى عالمه الافتراضي الذي يجد فيه راحته ، وينسيه شيئا من همومه إلى حين ، كما يفعل المخدر بعقل صاحبه المنتشي !!!.. يجلس أمام حاسوبه ساعات و ساعات
لا يمل و لا يتعب ، و لا ينقطع عنه إلا لأداء الصلاة التي يحرص على آدائها في وقتها ، أو لتناول شيئ من طعام ، أو تحضير شاي ساخن يمنحه تركيزا و نشاطا أكبر ... يرتاد تقريبا ، ويسبح في كل المواقع إلا المواقع التي يراها
تافهة في نظره ، أو المواقع اللا أخلاقية ... و يفضل المواقع الأدبية ، فهو مشترك في أكثر من موقع ، وله عدة محاولات أدبية متواضعة على حد وصفها له ، من مقال ، وخاطرة ، وقصة قصيرة .... إلا الشعر فقد اهترف بعجزه
عن نظمه ، واكتفى بمتعة قراءته ، خاصة شعر الزهد و الحكمة !! خلافا لكثير من أقرانه الذين يعشقون الشعر الرومنسي الغزلي ...
بسرعة دخل أحد المنتديات الأدبية المفضلة إليه ، ووجد رسالة جديدة في صندوق الرسائل ، فرح بذلك ، و هو يعلم من أرسلها ، أو بالأحرى من أرسلتها له ... فتح الرسالة ، و بدأ قراءتها بنهم شديد :
- أخي ( عاشق الحياة)- وهو اسمه المستعار في المنتدى - أعجبتني خاطرتك التي كتبتها أمس ، و خاصة جملة منها أثرت في كثيرا ، وكأنك تكتب ما أشعر به أنا أيضا ... ( ما أجمل الحياة ! إنها هبة من الله ، فلماذا نفرح بها،
ونعانقها إذا أسرتنا ، و نهجرها ، ونذمها إذا أحزنتنا ... نحن أنانيون ، ومن أراد طيب العيش في هذه الحياة ، فعليه أن يقبلها كما هي ، حلوها ومرها .) ...
وكم كانت سعادته أشد لما رأى أن صاحبة الرسالة ، واسمها المستعار ( نسيم الربيع) موجودة بالمنتدى الآن ... فاستغل الفرصة ، و أرسل لها رسالة خاصة ، يشكرها على قراءته لخاطرته، ويدعوها للتحاور كما تعودا على
ذلك منذ فترة ليست بالقصيرة ، ععلى أنهما اشترطا على بعضهما أن يكون التحاور بالكتابة فقط ... و كانا راضيين كليهما بهذا الشرط مؤقتا !!! ... أحيانا كان يستمر تحاورهما طويلا ، و أحيانا يكون قصيرا ، لكنه دائما وفي
كلتا الحالتين يكون ممتعا لهما ... و لقد تفطن الاثنان ، وشعرا عن يقين أن الحوار بينهما بمرور الأيام تطور إلى انجذاب كل منهما نحو الآخر ، أكثر فأكثر !!! ... و صار كل منهما لا يصبر على مفارقة الآخر ، بعدما تعرفا
على بعضهما جيدا ... في كل النواحي تقريبا ... العمر ، والدراسة ، والحالة الاجتماعية ، و الهوايات ... إلا أن ( نسيم الربيع ) لم تخبر محمدا بمكان عملها لحد الساعة ... أما محمد فلم يخبرها بأمر خطير للغاية ، على كل حال
لم يخبر أحدا بذلك !!! .. فبعد وفاة والده ، لوحظ عليه التزامه الشديد بالأوامر الشرعية ، وكان أمرا مقبولا و مستحسنا ما لم يجاوز الحدود ، إلى الغلو أو التطرف المذموم ، ولم يظهر محمد أي غلو يذكر ، ولو كان بالقول ، إلا
أنه كان يكتم في خلجات نفسه غلوا و تطرفا كبيرين ، حتى هو لم يكن ليتوقع ذلك ... لكنها رفقة السوء بالجامعة التي استغلت وضعه ، وغرست في قلبه وعقله أفكارا سوداء خطيرة ، و سقتها شيئا فشيئا بمرور الأيام ، حتى صارت
شجرة خبيثة متجذرة لا يمكن قلعها !!... فقد صار محمد منذ فترة ليست بالقصيرة مدمنا على مشاهدة المواقع الجهادية المتطرفة ، و آمن بأفكارها في غيبة من عقله الراشد المتزن ، وفي غيبة ناصح أمين يرده إلى الطريق الصواب ،
و ينقذه من الورطة التي سقط فيها .. حتى إنه تطور به الأمر جدا ، إلى حد غير مقبول ، و أشرب تلك الأفكار السوداء ، فصار يتمنى الشهادة في سبيل ، ويتمنى أن يكون مجاهدا في سبيل الله ، و أحد الاستشهاديين الأبطال ، الذين
يفجرون أنفسهم كي ينصروا الإسلام ، وهم في بلاد الإسلام و المسلمين !!!.. حتى إن ( نسيم الربيع) لم تلاحظ توقيعه مؤخرا في المنتدى ، -وهو من أقوال مثله الأعلى في الحياة الآن الشهيد أسامة بن لادن - : حدثوا أنفسكم
بالعمليات الاستشهادية ... و لما علمت تلك المجموعة الآثمة ، وبعد اختبار طويل أن محمدا قد اقتنع بفكرتهم ، و صار مستعدا لفعل أي شيئ لنصرة الإسلام و المسلمين ، عرضوا عليه فكرتهم الآثمة ، وهي تفجير نفسه بعملية
استشهادية في المطار الدولي انتقاما لمقتل زعيم القاعدة أبيهم الروحي على أيدى القوات الصليبة الكافرة ... كان وقع الفكرة عليه في بداية الأمر ثقيلا ، لكنه بعد تردد كبير ، وصراع نفسي داخلي رهيب اقتنع بالأمر ، ورحب به ،
وقبل أن يكون شهيدا جديدا ، وبطلا مغوارا في قافلة الشهداء الأبطال ...
كان تحطيط الجماعة محكما للغاية ، فقد أرادوا أن يضربوا ضربتهم قبل مجئ وفد غربي كافر لبلادهم الإسلامية بعد أسبوع للتنسيق مع نظام بلادهم في شؤون ما يسمى بمكافحة الإرهاب !! ، ولما كانوا يعلمون أن حراسة المطار
ستكون مشددة فوق العادة ، ومن المستحيل أن يمر محمد بحزامه المتفجر إلى قلب قاعة الركاب دون أن يشعر به أحد ، لذا احتاطوا للأمر ، واختطفوا ابنة أحد قادة الطائرات بالمطار ، و أخبروه أنه عليه أن يسلم ما في الحقيبة التي
سيعطونها له لأحد الأشخاص في حمام الرجال بعد يومين ، و إلا لن يرى ابنته مجددا ، ولن يسلم هو أيضا بعد ذلك ... فما كان من الأب المرعب إلا طاعة الأوامر ، و أدخل الحقيبة بطريقة سرية ، لم يتفطن أحد لها ... ثم انتظر
حمام الرجال ، وهو يرتعد من شدة هول الموقف ، حتى تقدم منه شاب وسيم بملابس أنيقة ، لا تظهر عليه أي علامة على التطرف أو الإرهاب !! ، سلم عليه ، و أخبره أنه هو صاحب الأمانة ، و أن ابنته ( صفية) تبلغه سلامها الحار ،
ستلقاها غدا صباحا في مكان سوف يعين له لاحقا ، أعطاه الحقيبة ، وانصرف مسرعا دون أن ينبس ببنت شفة ، إلى وجهة مجهولة ... بسرعة فتح محمد الحقيبة ، ولبس الحزام الناسف الذي تدرب على كيفية استخدامه في مكان
سري بالمدينة .. كان متوترا قليلا ، و لم يبد أي حركات مشبوهة حتى لا يجلب إليه الأنظار ، كان واثقا كثيرا بما هو مقدم عليه ، إلا أنه في لحظة ما ، وبينما هو يمشي في قاعة المطار الدولي الرئيسية التي كانت مكتظة بالمسافرين
من مختلف الجنسيات ، تذكر وصية والده ، و تردد صدى كلماتها في أذنيه : (يا بني محمد ، أنت رجل العائلة الآن ، أوصيك خيرا بأمك ، و بأخواتك البنات ، الله يرضى عليك ) كان وقعها شديدا عليه ، وكأنه يسمعها لتوه من فم أبيه
المحتضر ... أخرج هاتفه النقال ، والأعين الآثمة المجرمة تراقبه من بعيد ، وهو لا يعلم بذلك ، كما في أول الأمر ... مسك هاتفه بشدة ، و بحث في قائمة الأرقام التي عنده حتى وصل إلى رقم اسم صاحبه طويل ( نسيم الربيع) !!!
حيث قبل أسبوع من الآن طلب منها بإلحاح أن تزوده برقم هاتفها الخلوي ، إلا أنه لم يكلمها لحد الساعة !!! كانت أصابعه ترتعد نوعا ما ، و بسرعة ظغط على زر الاتصال ، وانتظر ، مر الوقت بطيئا جدا قبل أن يسمع الصوت الذي
طالما تمنى سماعه ، وبنبرة أنثوية خلابة أجابت ( نسيم الربيع ) على الاتصال قائلة : - محمد ... صباح الخير ، كيف حالك ؟
يا الله !! كم كان صوتها جميلا وحنونا !!! قال محمد لنفسه يلومها : - أيها الأحمق ، لم انتظرت كل هذا الوقت حتى تتصل بهذا الصوت الملائكي ...
لقد هزته من أعماقه .. و دون انتظار أو تضييع للفرصة أكثر ، رد عليها محمد بما لا تتوقعه في أول جملة تسمعها منه : - ( أميرة ) ، - وهو اسمها الحقيقي - أحبك !!!!!! ...
ثم سكتا الاثنان عن الكلام ... لم تعرف ( أميرة ) بم تجيبه ، وقد كسر هذا المجنون كل الحواجز فجأة ... ثم قال لها بنبرة حزينة : - سامحيني ، أنت تستخقين كل خير ، أرجو أن تسعدي في حياتك ...
وغلق الهاتف عن كره منه ، والأعين الأثيمة تراقب ما يجري من بعيد ، وتود فهم ما يجري ، لأن التعليمات كانت واضحة له ، لا هاتف ، ولا كلام مع أي أحد ، فقد انقطع اتصاله بمن في هذا العالم تماما بعد لباسه الحزام الناسف !!! ..
استغربت (أميرة ) فعل محمد ، وهي التي كانت تحبه كثيرا ، إلا أن حياءها يمنعها أن تبوح له بحبها من أول اتصال !! .. لكنها تشجعت ، و اتصلت به كي تعرف فحوى كلامه السابق الذي لم تفهم منه شيئا .. ظل هاتفه يرن إلا أنه لا يجيب،
فقد كان في صراع مع نفسه ، والوقت لا يسمح بذلك ، إلا أنه غامر ، و عصى الأوامر المشددة ، و أجابها قائلا : - سامحيني يا ( أميرة ) ، ربما سيكون هذا آخر اتصال بيننا ...
قاطعته قائلة : - محمد ، ماذا تقول ، أود لقاءك ، أين أنت الآن ؟ ، أجابها ، وهو محتار في أمره بصدق دون أن يكذب عليها :- أنا في قاعة المطار الدولي أنتظر صديقا لي ...
فأجابته : - حقا !! .. أنا هنا أيضا .. ، كادت محمد يغمى عليه فور سماع الخبر ، وقال لها متحققا : - أنت في المطار الآن ؟ و ماذا تفعلين ؟ ، فأجابته بهدوء : - أنا لم أخبرك بعملي ، أنا أعمل هنا مع إحدى شركات الطيران العالمية ...
- (أميرة) اهربي بسرعة ... اهربي ... لم يبق وقت طويل ....
قال محمد ذلك ، وهو يحاول أن يوقف عمل الحزام الناسف الذي يبدو أنه مصمم عل الانفجار ، حاول مجددا ، و ( أميرة ) تصرخ و تنادي في الهاتف الذي وضعه في جيب سترته ، وتركه مفتوحا ... و نتيجة لتحركاته المشبوهة وسط القاعة ،
تفطن له بعض رجال الأمن السريين ، فتقدموا نحوه بسرعة لإيقافه ، و كانت ( أميرة ) تجول في القاعة ، وهي تنظر يمينة و شمالا علها تتعرف على محمد الذي لم تشاهده قط ..، تفطن أعضاء الجماعة أن الأمر خرج عن سيطرتهم ، و أن
محمدا خانهم ، فقرروا التخلص منه ، قبل أن يمسكه رجال الأمن ، ولم تكن ( أميرة) بعيدة عن مسرح الأحداث .. بل قريبة ، وقريبة جدا ... استغل أحد الأعضاء الفرصة باكتظاظ المكان بالمسافرين ، و دخول محمد حمام الرجال ، فأمسكه ،
ودون أن يتكلم معه طعنه في قلبه طعنة قاتلة ، وفر مختفيا بين المسافرين ، بعد وقت قصير دخل رجال الأمن السريين ، ووجدوا محمدا مخضبا في دمائه ، فأعلنوا حالة الاستنفار القصوى ، فاختلط الحابل بالنابل ، عندها علمت ( أميرة ) أن
مكروها ما حدث لمحمد ... وصدق حدسها ، حين رأت رجال الأمن يسحبون شابا ملطخا ا بالدماء ، و بيده هاتف !!! ... فأسرعت نحوه ، ودون وعي منها ، عانقته بشدة ، رغم أن رجال الأمن حاولوا منعها من ذلك ، إلا أنها لم تنفصل عنه ،
وهي تذرف دموعا حارة حارة جدا ، وتقول : - حبيبي (محمد) ، لا تفارقني .... أرجوك ...
........ تمت ...................