
يوم خريفي بامتياز، و الشمس وحدها تصارع الضباب لتمرر لهذا العالم بعض الأشعة المتعبة ، علها تنير ما تبقى من زمن النهار .
وأنا أخطو في اتجاه المستشفى البلدي تقاطرت ببالي كل اللحظات التي قضيتها مع رقية .
كنت أفكر كيف جمعتنا الأقدار بين حيطان تلك الدار ، إنها دار الأيتام . تلجأ عيوني الى صفحة تقاسيمها لتجتر تحت ضوء الذكريات الباهت عذاباتها فتزرع قلبي المكلوم بجراحات و بعبق ورد ذابل و بحكايا المهمشين و المضطهدين على هذه الأرض ..
حين يلثم الزمن أقدام الحياة فتستفيق رقية على وقع اليتم و فعل الزمان بها، تنهار كما ينهار الحائط أمام زحف الأعاصير . تربينا معا جنبا الى
جنب ، فكانت لي أفضل صديقة و أروع أخت . معها عشت طفولتي كما تعيش الأخت في قلب أختها ، كان بيني و بينها بحر أحاسيس إذا تلاطمت
أمواجه بكينا معا أو ضحكنا سويا . على نبض قلبي كانت تستريح و بين شجيرات فؤادها كنت أغرد كلما أحسست بلوعة اليتم . لقد فاجأتني
بمكالمتها الهاتفية هذا الصباح و صوتها لا يكاد يبين و أرعبتني حين اخترق مسامعي بكاؤها و هي تستغيث فهمست لي بأنها تمر من وعكة صحية خانقة لا تدري هل سترى النور بعدها . فقالت أسرعي غاليتي كي أراك قبل الرحيل !. اندهشت لندائها فخرجت أجر خطواتي في اتجاه المستشفى . بين ارتعاشات جسدي و ضجيج هذا الألم الذي يلازمني كالظل بدأت أسرع الخطى و أتنفس بعمق كي أواصل المسير.
وصلت اخيرا مقصدي فصعدت الدرج و دخلت الى الغرفة التي تحتضنها ، كانت كئيبة و يملأ جوها صمت رهيب و على ذاك السرير كانت ترقد رقية ، ممدة و شاحبة و عيناها الذابلتان شبه مغمضتين . وقفت أمامها و تقدمت دون شعور احتضنتها و انا أقبلها كالعادة كنت أنتظر أن تبادلني القبلات . لكنها لم تحرك ساكنا . اندهشت و أحسست بضياع يلتهمني . فصرخت دون شعور : حبيبتي ، رقيتي ، أختي هبني الحياة و لا تتركيني أغوص في
بحر اليتم ثانية . يا ملاذي و يا عمري و يا أملي و كأنها سمعت ندائي و صراخي و عويلي ، ففتحت عينيها واستدارت نحوي . فعاودت احتضانها فأمسكتْ بيدي و كأنها تريد تقبيلي فقبلتها بحرارة و دموعي تنهمر . حاولتْ أن تكلمني لكن حشرجة منعتها و حالت دون ذلك . فزاد ذهولي و أحسست أنني الآن سأعيش زمن اليتم حقيقة و أن الحياة تافهة و طعمها مر علقم . فصاحبة هذا الجسد الذي يرقض هاهنا بلا حراك كانت حتى البارحة وردة ندية تطفح بعبق الحياة . و هاهي الآن أمامي لا تقو حتى على رد السلام .
أحسست بالضآلة و صحراء من ضياع ! و أن كل ما مر بيننا كان مجرد حلم أو وهم و هي توشك الآن على الرحيل . أخذت يدها الباردة فلثمتها و وضعتها بين راحتي ، فانتشرت في جسدي رعشة غريبة فأطلقت العنان للدموع و شعرت حقا بلوعة الفراق تجتاح عمقي. هنيهة قاطعني الطبيب و الممرضة و ما أن كشفا عنها حتى وضع يده على رأسه ليعلن عن وفاتها...
بكيت من أعماقي حال هذه الحبيبة التي شكلت و بحق قطعة من حياتي . كانت هي أمي ..هي أختي بل نور حياتي فكم من مرة سهرَت الليالي من أجلي . بكيت حظي العاثر و احسست بفدفدة قلبي تكبر و همست لنفسي: ها أنت يا أنت يا زهرة ...بعد رحيل رقية ، قد لحق بك زمن الغروب و الغربة دفعة واحدة .
بقلم : زهرة (زهرة القلب1)