السماء زرقاء, ملاحظة منطقية يتفق عليها الجميع, و من يصف السماء بأنها حمراء أو خضراء نصفه بالمجنون, لكن و إن اتفق الجميع على أن لون السماء هو أحمر فالمجنون في هذه الحالة هو من يقول أن السماء زرقاء...
في البداية كان الإنسان يعيش في الأرض حرا و في سعادة, فالطبيعة وفرت له حاجياته, و عاش الإنسان في تناغم مع الطبيعة, إلى أن جاء اليوم و قرر الإنسان تفضيل القيم المادية على قيمه الإنسانية, فتحول من كل شيء قابل للبيع و الشراء و الهدف هو تحقيق الأرباح و الأطماع الشخصية, فتحول العالم إلي مكان تسيطر فيه الأحقاد و الكراهية, فكل جماعة من البشر اختاروا مذهبهم في الحياة و حاربوا من يخالفهم الرأي و اتهمهم بالجنون...
لطالما كان للواقع الإنساني انعكاس على كل القطاعات و الأنشطة الإنسانية, و من بين هذه القطاعات نجد القطاع الرياضي عموما و الكروي خصوصا, فهو بدوره له خاصياته الإنسانية و تحول إلي عالم المادي صرف, فبعد أن كان الرياضة هدفها الوحيد هو المتعة و الفرجة, هنا يحكي لنا التاريخ عن قصص يظنها البعض حاليا انها قصص خيالية, يكفي أن نرجع لتلك الحقبة لنشاهد تجمع اسري لأهالي العمل في إحدى الحدائق أو في ضفاف الأنهار في بلاد الضباب انجلترا, فقد كانت نهاية كل أسبوع تعرق تجمع بين الأسر و الأصدقاء, و كانت الكرة وسيلة لخلق المتعة بين الأصدقاء, هذا المشهد يمكن اعتباره قمة في الإنسانية, لكن سرعان ما تحول كل شيء في العالم الإنساني إلى استغلال و تبني الفكر المادي....
الفكر المادي أو ما يسميه علماء الاقتصاد بالفكر الليبرالي, حول كل شيء إلي سلعة هدفها الوحيد هو تحقيق الربح المادي و إشباع الأطماع, فتحول هدف الكرة من المتعة إلى تحقيق الربح المادي, و تحولت الحدائق إلى أماكن فارغة إلا من المتشردين, و إن أردت متابعة لقاء كرويا فعليك أن تدفع مقابل الفرجة (فرجة تفتقد أصلا لتلك المتعة و الفرجة الأصلية), فتحول العمال المتألقين في اللعب من هواة إلي لاعبين محترفين في كرة القدم, و تحول تجمعات الأصدقاء إلي أندية كروية, و إدا بالكرة تتحول من رياضة خاصة بالفقراء إلي سلعة تباع للفقراء, و أمام حدة العيش في العالم الليبرالي و الذي لا يعترف إلا بقانون السوق, أزداد فقر الفقراء و ازداد تهميشهم, و هو الأمر الذي حول الكرة و الملاعب الرياضية مجال يمكن الفقراء من الترويح عن النفس ومعاناتهم و غضبهم من المجتمع الذي همشهم, و ازداد شعور أللانتماء فبحث الفقراء عن أي شيء ينتمون إليه و يدافعون عليه, فما كان عليه إلا أن جعل من الفرق الكروية وطنا ينتمون إليه و يدافعون عنه بل و يموتون من أجله, إلى درجة إن تحولت تلك التجمعات التلقائية لتشجيع الفرق إلى مجموعات منظمة أطلق عليها اسم "الإلتراس" و كرسوا في هذه الظاهرة انتماءهم و زادت معها حدة تعبيرهم على وجودهم, فثارة عبر الاحتفاليات و التشجيعات الفنية الرائعة, و ثارة أخرى عبر الشغب و تذمير أي شيء في طريقهم, تذمير سببه رغبة في إيصال رسالة لمن قاموا بتهميشهم مفادها "نحن هنا", و لأن المصائب لا تأتي فرادى فقد تحولت الفرق إلى أهداف يسعى من خلالها أصحاب المطامع الخاصة و الأهداف الخفية إلى السيطرة على كراسي القرار و تحويل الفرق الرياضية إلى ممتلكات خاصة تورث أيضا للأبناء كأي ملك خاص, و الأخطر أن هذه الفئة هي جاهلة لأمور التسيير الرياضي, تعتمد في قراراتها على العشوائية و جعل الأولوية للمصالح الخاصة قبل مصلحة النادي...
هذا الفكر تحول إلي عقلية سائدة في العالم, و قد تتعالى بعض الأصوات الداعية للإصلاح أو منددة, فالعشوائية و المادية سائدة, لكن هل هم فعلا اصطلاحيون أم فقط أصحاب مصالح خاصة جدد, يحاولون أن يجدوا موضع قدم لهم و الحصول على قطعة كعكة أو على الأقل فتات الكعك مقابل صمتهم, و من يدري ربما قد تنجح أصواتهم في زعزعة الرأسماليين و تظهر عندنا أيضا طبقة الرأسماليين الجدد, فالثقافة الرأسمالية تتطور و تجد لنفسها أقنعة تحاول من خلالها خداع الفقراء و المهمشين قصد ربح الوقت, و كما يقولون الوقت هو المال, و هنا يكمن أهمية الوقت عند هذه الفئة...
لطالما حللنا مشاكل الكرة العالمية و الكرة المغربية خصوصا, و كانت نتيجة و خلاصة النقاشات هي أننا في حاجة ماسة للتغيير في العقليات السائدة, لكن هل نحن فعلا قادرون على إحداث هذا التغيير المطلوب, فالرأسمالية احتاجت لقرون لتصبح على ما هي عليه الآن, و أي تغيير في الثقافة السائدة أو العقليات السائدة هو في حاجة لقرون حتى نستطيع تربية الأجيال القادمة على فكر و عقلية جديدة, فالتعليم في الصغر كالنقش على الحجر, مثال نتداوله دون أن نتجرأ على تطبيقه فعليا, و في المقابل نجد الرأسماليين طبقوا هذا المثل و لازالوا يطبقونه لحد الساعة, و حولنا من طبيعتنا الإنسانية إلي مخلوقات استهلاكية خدمة لمصالحهم, و لا تستبعد أن نعيش في عالم يبيعوننا فيه الهواء الذي نتنفسه, فالسماء زرقاء و ليست حمراء حتى و لو اتفق العالم بأسره على اللون الأحمر...
إننا في حاجة إلى ثورة فكرية, علمية و ثقافية ربما عندها سوف نستفيق من سباتنا العميق, و ربما عندها يمكننا تحقيق النهضة الشاملة ليس فقط في القطاع الرياضي بل في جل القطاعات الاجتماعية و الاقتصادية...