نحو نعيم العـاصمــة ! ... My Writing
آخر
الصفحة
Zikoo Pasha

  • المشاركات: 16324
    نقاط التميز: 7569
مشرف سابق
Zikoo Pasha

مشرف سابق
المشاركات: 16324
نقاط التميز: 7569
معدل المشاركات يوميا: 2.3
الأيام منذ الإنضمام: 6988
  • 22:12 - 2012/06/19

 

مللت كثيراً من صداعات وتفاهات الحياة الروتينية الجدية الركيكة في مدينة الجهل والتخلف ، التي سميت قسراً ، عاصمة علمية ، أعتقد أن أبناءها الجدد حقاً يبرعون في علوم " التشمكير " و " التبزنيس " و " العياقة " .. لا شك أني أستحق في صبيحة يوم صيفي جميل ، أن أهرب من جحيم هده المدينة بكل ما تحمله من غليان و تلوثات وهوامش ونقطٍ سوداء وكتل اسمنتية بالية فُرض علي رؤيتها كل يوم ، نحو نعيم الحداثة .

القطار السريع لم يكن مسرعاً بما يكفي ، تلك المرّة على الأقل ، توقف أكثر بكثير مما يجب قرب قرية تسمى " القصيبية " ، دقائق معدودة لتعود نفس الصداعات لمطاردتي من جديد .. تأفف واشمئزاز لا يكف عنه الرّكاب المتذمرون عكّر عليّ بداية رحلة صفوٍ كان لا بد له أن يتلوث ، وسط الكلمات البذيئة واللعنات الشاتمة للمسؤولين والدولة والوزارة والسكك والقطارات والمغرب والعالم ، و كل شيء ، تراءت لي من بعيد مجموعة شبان قادمين نحو القطار ، غريب .. اذ لم يكن بجوارنا سوى الغابات الكثيفة الخالية من الحياة سوى أزبال تتناسل هنالك ، ويا ليتني كنت محقاً ، اذ يبدو أن حيوات أخرى تعشش في الجوار . صعد على متن عربتنا الصغيرة شابين ، فتشا المحافظ الموضوعة فوق المقاعد كأنهما يبحثان عن شيء ضائع ، لا أدري ما الدي حلّ فجأة بزملائي الركاب الغاضبين ، بدى جليّاً أنهم ابتلعوا شيئاً ما أخرس ألسنتهم الطويلة عن استعراض كلام الشوارع وشلّ أجسادهم البدينة عن الحركات الساخطة التي ما انفكوا يستعرضونها استعراض الأبطال قبل أن تنتهي مسرحيتهم الرديئة بفيلم سطوٍ مسلح أبطاله لا يشبهون ممثلي هوليود ، تحولوا فجأة من أشباه مناضلين ثائرين على الأوضاع ، الى شياطين خرساء ، بل كنا كدلك جميعاً ، ونحن نرى دلك الحاسوب المحمول الثمين يُسرق تحت ويلات التهديد ونيران الوعيد من شاب لم يفارق جهازه الحميمي دقيقة واحدة من الرحلة ، لقد كانوا كرماء لأنهم لم يفتشوا جيوبنا المثقوبة، بل اكتفوا فقط بالأشياء الكبيرة ، ولحسن الحظ ، لم يكن معي سوى هاتف متواضع وأوراق نقدية وغير نقدية ، هكدا ، أقلع القطار ، بعد مئة وخمسين دقيقة ، دون أن نتلقى حتى توضيحاً سمعياً في مكبرات الصوت الكثيرة ، أكلمنا الرحلة ، ولم نصل الا بعد أن دفع بعضنا ثمناً اضافياً من أجلها، غير التذكرة الورقية الباهضة ..

تنفست الصعداء لهبوب نسيم العاصمة البارد على محيّاي ، صعدت الدرج المتحرك ، تأملت المحطة الكبيرة ، قبل أن أخرج لمركز المغرب ، وواجهته في شاشات الاعلام. كانت حشود المعطلين المتجمهرين الصائحين قرب قبة البرلمان ، أوّل من يرحب بي ، ويبدو أنهم لم يجدوا غير يوم تنزهي ليعلنوا تصعيدهم في أشكال الاحتجاج ضداً على عدم استجابة الحكومة الجديدة ، لكن وزارة الداخلية سرعان ما استجابت ، ويا ليتها لم تفعل .. زعيق أبواق سيارات الأمن المخيفة ملأت المكان ، فررت بحياتي بسرعة من شارع محمد الخامس ، لكي لا أفقدها أنا الآخر بسبب هراوات البوليس الغليظة التي ادا بطشت ، لم تكن لتفرق بين متظاهر و متنزه ، وما كان لها أن تفرق أبداً .

فررت نحو مقهى في الشارع المجاور ، لأنضم الى أصدقائي البصاصين الباحثين عن اللاشيء ، أحب المقاهي كثيراً ، لأنك تختار أن تنزوي عن العالم، وتشاهده في صمت شديد ، أن أبقى في الهامش أنظر وفقط .. أفضل من أن أزج بنفسي وسط عالمٍ تيّه في اللامعنى ! ، الغادين والرائحين كثر ، أكثر من شد انتباهي هن بنات العاصمة ، اللواتي يلبسن العري بجرعات زائدة ، أكثر بقليل من أخواتهن في المدن الأخرى ، بنطلونات زجاجية تفضح المستور وتجعله يدعو الناظرين ، لكنه على الأقل ، عريٌ له معنى ، بواجهته البورجوازية تلك ، حيث النظارات الشمسية الفاخرة ، وملابس آخر موديلات وصيحات المودا ، السيارات الفارهة .... وأشكال الترف الباذخ الى البلا نهاية ، ان هدا على الأقل أفضل بكثيرِ من مظاهر الانحراف الشعبي البائس الدي اعتدت مشاهدته بين دروب مدينتي الحقيرة .. لمحت من بعيد مراهقة فائقة الجمال ، شبه عارية ، فكّرت في مناداتها لتشاركني طاولة المقهى اليتيمة ، أحسب أني أستحق واحدة من هاتيك الفتيات المتفرنسات ، الى متى سأظل خليلاً لحبيبة واحدة تطاردني أينما رحلت ، حبيبة غنية عن كل تعريف اسمها "الوحدة" ! , لم أنادها ، غمزتُها وابتسمْت ، أكملت طريقها ورحلَت ، لم تأتِ هي ولم تأت مثلها ، كل من جاء الي ، هم اما بائعوا أفلام قديمة ، ماسحوا أحذية ، أو أصحاب الشعر الطويل من الحمقى الصعاليك الدين يطلبون صدقة ، أسائل نفسي بسخرية وأنا أرفضهم الواحد تلو الآخر ، أية صدقة هاته التي غالباً ما تنتهي دراهما في أيدي " البزناسة " ، لقاء قارورة صغيرة من الكحول الخاص !

انتقلت مباشرة من العمارات الشاهقة و " الترامواي " ، نحو المحلات الشعبية والبنايات المرتهلة الآيلة للسقوط على أصحابها في أية لحظة . أزقة "باب الاحد " تبتدأ بتجمع هائل للنساء بمختلف أشكالهن ، البدويات والمدنيات ، التقليديات والحداثيات ، صاحبات الجلاليب و مرتديات الجينز ، كلهن يتجمهرن في صف طويل وعريض أمام قبة صخرية قديمة ، يبدو أنها قبة ضريح ، لم أعتد على هدا الشكل من الازدحام أمام هده القبب الصخرية في مدينتي ، ولا حتى في أعياد الأولياء الموسمية بالقرى ، انه تجمهرٌ خاص ، كلٌ منهن لها أمنية جميلة ، أعتقد أني عرفت ماهيتها بالنظر الى وجوه الشابات البئيسات ، جئن ليفرغن كبتهن على صاحبة الضريح الرّاقدة في النومة الحادية العشر ، فكرت ، أي ازعاج كبير هدا الدي ينبغي أن تتلقاه هده " الولية " وهي ترتاح من الدنيا بينما كل ويلات المشاكل البشرية البائسة أبت الا أن تلاحق أسماعها وهي في العالم الآخر . أمام الضريح يستريح مسجد كبير مفتوح آناء الليل وأطرف النهار ، فهو مفتوح في وقتٍ لا صلاة فيه ، وبجواره " دار قرآن " ، وبين ثلاثية الجن والملائكة هده ، اختار الاخوان الملتحون تلك الساحة ليعرضوا بضائعهم ، حلزونات وبخور وعطور .. مواعظ باكية وأشرطة خاشعة ." ان الشرك لظلم عظيم " ، هده هي الآية الجليلة التي تناهت الى أسماعي حينها بصوتٍ قوي صادحٍ للشيخ " عبد الجليل " ، ألقيت نظرة مرة أخرى على الضريح ، طابور المصطفات يزداد في تدافع كبير ... كل هدا وسط عاصمة ظننت جزافاً أنها وجهٌ جميلٌ لحداثة مغربية تقطع مع كل أشكال الماضي الغابر ! ، أكملت الطريق .. وتناولت غذاءاً بسيطاً في مطعم شعبي لدى أحد الاخوان الملتحين ، انهم على الأقل متدينون ، أستطيع أن آكل وجبة تشبعني بأقل ثمن ، دون أن أخشى الوعكات التي ترافقني مع علب السردين . السندويتش كان لذيذاً جداً ، رغم أن رائحة الصوصيص بدت لي غريبة تماماً عما أعرفه ، جاءتني فكرة سوداء .. قد يكون الصوصيص من لحم كلب ، أو قط ، أو حمار ، من الدي يمكن أن يضمن أي شيء ؟ ، تعوذت بالله من الشيطان الرجيم ، كيف لي أن أشك في وجهٍ نوراني يحمل لحية كثة اقتربت شعيراتها من الصدر !

بعد صراع كبير مع المزدحمين ، والعربات التي تشق الطريق بين الجموع الغفيرة ، أخيراً خرجت من دلك الضيق الدي كاد يخنق أنفاسي ، كورنيش عريض أمام وادي " أبي الرقراق " كان ملاذاً جيداً عندها ، استرحت قليلاً ، تأملت الوادي المتسخ الدي فقد زرقة جميلة كانت تزينه سابقاً ، ليس الوادي فقط من فقد زرقته ، يبدو أن السماء أيضاً مشؤومة ، أنذرني احساسي الدي لا يخطأ بكارثة ستقع ... !

حلّ المساء ، جبت الشارع الطويل تلو الشارع ، أعياني المشي ، أحسست برغبة جامحة مدفونة في العودة الى المنزل ، والنوم على السرير ، النوم طويلاً وطويلاً ... لم يكن أمامي من خيار سوى العودة الى محطة القطار ، آه كم اشتقت اليك يا مدينتي ! ، وقرب مسجد السّنة ... العالم تاه من حولي ، لم أعد أقوى على رؤية أي شيء ، تألمت ، صرخت ، واستغثت ، المارة ينظرون بلا مبالاة ، ثم سقطت .... !

 

 

 نحو نعيم العـاصمــة ! ... My Writing
بداية
الصفحة