( أمُّ أربَعة و أربعِين )
جَلس في ليلة زفافه بجانب زوجته و الدنيا لا تسعُه من الفرح، كيف لا و ها هي ذِي كل أحلامه قد تحققت و في دُفعة واحدة، فمنذ أسْبوع تقريباً قد أتم إجراءات السفر إلى إيطاليا بعد حصُوله على عقد عمل هناك كسائق شاحنةٍ لإحدى شركات النقل في الجنوب الإيطالي، كَان قد دفع فيه لأحد الوُسطاء كل مُذخراته طيلة سنوات عمله كسائقٍ خصوصي، ليسْتعجل بعد ذلك عقد القران بالمرأة التي تعلقَ بها قلبه قبل عقله حتى لا تضيع منه، فعلى الرغم من أنها لم تكن لا بجمال النفرتِيتي و لا بسِحر الكيلوباترا إلا أنها قد ملكت حواسه و أحاسِيسه بتقاسيمها البسيطة، مرقت كل هذه الأحداث التي عاشاها موخراً من أمام ناظريه و كأنها ومضاتٌ لحلم جميل، تحَّسس جيب سترته البيضاء حيث يُوجد جواز السَّفر و تذكرة الطائرة التي حجزها هذا اليوم، فأحسَّ للحظاتٍ بقشعريرةٍ تسري في شراينن بدنه و هو يفكر في موعدِ الهجرة بعد يومين من هذه الليلة على الساعة الخامسة صباحاَ، نفض عنه هواجِسه و هو يُصغي للمُوسيقى ثم نظر بحميميَّة صوب زوجته و هي في فستانها الأبيض فأحس بالسَّكينة على الرغم من خفقات قلبه المُدوبة.
و بَعد مرور يومين على حفلة الزَّفاف التي مرت على أحسن ما يُرام، كانت السَّاعة تشيرُ إلى الثالثة و النصف قبل الفجر حين كان جالساً على سَرير غرفة النوم و هو يتابع بشغفٍ زوجته و هيَ تتنقل بين الدُّولاب و السرير لإعداد حقيبة سفره، و عُيونه بالكاد تستطيع تصديق أنه قد تمكن من الظفر أخيراً بمحبوبته، فعلى الرُّغم من أنه لم تجمعهما من قبل بل أية علاقة مباشرة، إلا أنه كان يحتفظُ لها في ذاكرته بذكريات جميلة منذُ أيام طفولته و طيلة سَنوات الدراسة الإبتدائية و الإعْدادية، فنظرةٌ منها كانت كفيلة بأن تشلَّ حركته في وسَط الشارع العام و تجعل من تفكيره وقفاً عليها و هو يحلق بأمانيه في عوالم أخرى، قبل أن تتوقف هي عن الدِّراسة بسبب إخفاقها المتكرر و تلزم البيت لتتفرغ لهوايتها المُفضلة و هي المِرآة، بحيثُ كانت تقضي السَّاعة تلو الساعة و هي جالسة أمامها تجرب على وجهها كافة أنواع المساحيق و المسْتحضرات التجميلة سواء العصْرية منها أو التقليدية.
و عِندما أتمت توظيبها للحقيبة خفضَ عينيه ثم قال لها بأسى :
كم كُنت أتمنى أن أغمض عيني و أفتحها لأجد نفسي في نفس هذه الغرفة..
و لكن بعد مُرور ثلاثة سنوات !!!
دنت منه ثم تحسَّست بأناملها فروة شعر رأسه و قالت له :
لا تشغل بَالك بشيء يا عزيزي ستمر هذه السنوات الثلاثة بسرعة البرق..
المُهم هو أن تكدح كثيراً في توفير المال حتى لا تضيع جهودك سُدى.
أتمَّ حديثه معها بحميميةٍ ثم ودعها و ودع أيضاً أسرتها الصغيرة المتكونة من أبٍ متقاعد و أمٍ ربةٍ للبيتْ و طفل لا يتجاوز عمرهُ العشرة سنوات بعد أن إستودعها عندهم، ثم حمل حقيبته و خرج من المنزل و إستقلَّ سيارة الأجرة الصغيرة ثم توجه إلى المَطار الدولي...
مَرت عليه السنوات الثلاث في بلاد المهجر و كأنها الدَّهر كله، بحيث تجرع الغربة فيها بطعم العلقم المُر بعد أن إكتشف أن عقد العمل الذي كان قد دفع فيه كل مذخراته هو لشركةٍ إيطالية وهمية تنشط عبر بيع عقود العمل المُزورة للفردوس المفقود، فكم مرت عليه من ليلةٍ باردة من ليالي أوروبا وهو يفترشُ صفحات الجرائد على الكراسي في الحدائق العمومية، حتى أنه في إحدى الليالي كاد أن يتجمد من شدَّة البرد و الصقيع لولا أن دورية لرجال الشُرطة عثرت عليه و هو في غيبوبة حَرجة و أسعفته لكان الآن في أقبية المشرحة في عداد الموتى، ليفر أيام بعدها من المُستشفى خوفاً من التحقيق معه ثم إعادته إلى وطنه بخُفي حنين.
تعايش مع العطش لأسَابيع و مع الجُوع لأشهر، ثم تعلم من شوارع و أزقة ضواحي المُدن الإيطالية كيف يوفرٌّ قوت يومه بغض النظر عن الطرق و الأساليب التي يسْتخدمها، قبل أن يتمكن من الحصول على عمل قارْ و بأجرٍ مريح في إحدى المقاولات التي تنشطُ في مجال العقار و العمران كعامل بناء، إستقرت بعد ذلك أحواله و تمكن من الحصول على أوراق الإقامة و التي فتحت أمامه الباب للكسبِ المشروع فضاعف من جهده و عمل حتى بعد الظهر في العديد من المهن الموسِمية، و طيلة هذه السنين لم تنقطع في يومٍ تحويلاته عن زوجته، فبعد أن يكتفي بمبلغ بسيط يغطي مصَاريف الكراء و تكاليف العيش كان يرسل البقية كلها إلى زوجته العَزيزة.
و في صَبيحة أحد أيام الصَّيف و بدون سابق إعْلام، كَان يقف أمام باب أهل زوجته و في ذهنه تتضارب الأفكارْ و الأحاسِيس، ما بين شوقه الجارف إلى زوجته و شراءه لعشِّ الزوجية و مشروعه الصغير، كل هذا بالمذخرات الذي كان يبعثُ بها إليها، و عندما طرقَ الباب فتحته فتاة ذات شعرٍ أشقر و عدساتُ عين لاصقة زرقاء و أنف مُستدق و خدود ممتلئة و قدٍّ رشيق، أصيب بالذهول فسَألها قائلاً :
عفواً سيدتي.. هل هذا هو منزل السَّيد لقمان ؟!
إبتسمت في وجهه ثم إرتمت عليه بالأحْضان، و في غمرة ذهوله سحبته من يده إلى داخل المَنزل و هي تقول :
هذا هو بيت السَّيد لقمان، و هذه هي بنت السيد لُقمان..
ألم تعرفني ؟!.. أنا سَراب !!!
وقعت كلماتها عليه و كأنها الصَّاعقة فتسَّمر في مكانه ثم نفض يده من يدها و قال بذهول أكبر :
سَراب ؟!!!.. و لكن كيف ؟!!!
إبتسَمت في وجهه إبتسامةً عريضة و هي تقول :
الفضلُ كل الفضل يعود لك أنت يا عزيزي !
فهذا كله بفضل المَال الذي كنت ترسله،
فبه تمكنت من إجراء ثلاثة و أربَعين عمليةً جراحية تجميلية لكافة جسَدي..
و الأخيرة سَأجريها بعد ساعة و نصف من الآن.
بقي في مكانه جامداً كما و لو أنه قد أصيب بإنهيارٍ عصبي، أما هي فلقد حملت حقيبتها الحَمراء على كتفها و تابعت حَديثها بأريحية و هي تفتح الباب :
وداعاً عزيزي.. سَنلتقي في مساء الغد،
و أعدُك بأنك ستتفآجأ من النتائج !!!
بقلمِي...