مضت صور الحاضر تفتش في خفايا قلبي المتأوه ، حنين بعمر السنين الآفلة ،حيث تولد قرب صرخات روحنا ذكريات عابرة ، كنت حينها استرجع مآتي يومي المنصرم ، واقفاً قرب كلمات تلك الفتاة في حصتي التدريسية ... فلماذا يا ترى الآن بالذات ، وقد بدأت جروح القلب تلتئم ، هكذا كنت أخاطب نفسي الهائمة ، كنت مدرس في أحدى المدارس بتخصص علمي، وقد تجاوزت الأربعين عاماً ، ولم أوفق للآن بالارتباط ، كان قلبي يهفو نحو خيالات أتلفتها يد الزمن ومحت أحلامها قيود العبودية المتضمخة بحب المادة ، وهذه السنة بالذات كانت مليئة بالحزن العميق ، كان يتوجب على عيوني أن تشاهد أبنتها في حصتي ، عرفت تلك الفتاة في أولى لحظات تحديقي فيها ، لأنها شبيهه بأمها .. شبيهه بتلك الإنسانة التي نسجت يد المحبة محبتها في قلبي ، ولكنها نزعتها من أسوار روحي عندما تفطنت بأني أدنى مرتبةٍ وفق نظرها .. كان ذلك قبل سبعة عشر سنة ، جلست وحيداً في غرفتي أطالع الأحلام الهاربة صوب تلافيف اللانهاية والشيب يخط بياضه على رأسي كما يخط الفجر نوره على ظلام الليل ، ما زال ذكرها يتصاعد في قمم خيالي ، يجعلني أتوقد كلما لمحت أفياء الحب تسكب رحيقها في قلوب المحبين ، لكنها تطلب مني الآن وبعد فوات الأوان أن أتلقيها !! لماذا الآن بالذات ، اليوم جاءت أبنتها بعد نهاية الدرس ولفظت تلك الكلمات ...
أستاذي سوف تقدم أمي غدا لتسألك عني !! يا الهي كيف أستطيع أن أحدق بوجهٍ جعلني أتوه في دروب الألم ، كنت مشتاقاً إليه ، كارهاً الوصول إليه ، لا أريد لهذه الفسحة القاتمة أن تندس في حفاوة حياتي الهادئة ، استرسلت في عباب التساؤلات وغلبت عيني دمعة ، إلى أن استسلمت إلى ملك الرقاد ، حيث حل الصباح وتفاقمت الأضواء من أشعة الشمس البارقة ، لملمت أوراقي وتوقفت قرب منظر الطيور المحلقة صوب الفضاء ، راحت روحي تطوف هناك بعيداً عن ضوضاء هذا العالم ، وللحظة تصورت لو أن العالم أصبح أكثر عقلانية ورمى قيود المظاهر .. لمرة واحدة فقط لو فكر الكون بأن الحياة تجثو قرب المحبة والوفاء ، لا أعلم لما كان دربي طويلاً لحين وصولي لمدرستي ، أو أن الوقت ما عاد يهمني كثيراً ، لأني أردت الهروب من ذلك اللقاء ، كرهت اصطناع الأقنعة التي تجعلنا صامتين لا صامدين بوجه الصدمات ، ولأول مرة بعد سنين طويلة وجدتها واقفة أمامي ، تترقب مجيئي وقد أعلنت ابتسامتها الحالمة عن أمل رفرف لبرهة ، حينما حدقت صوبي ، أما أنا فقد امتلكتني رعشة سرت في أحشائي سرعان ما رحلت عندما تذكرت قهرها وتجاهلها لمشاعري ، هذه الإنسانة كانت بيوم سبب تعاستي ، ولكنها كغيرها من البشر تخطئ أو تصيب .. فأردفت تقول حدثتي أبنتي عنك كثيراً وقالت بأنك أستاذ طيب القلب ، ولطالما أحبت وجودك ، ولا اعلم وجدت القدوم إلى هنا وشكرك على صنيعك أرهف شعوراً لرد الجميل ... قابلتها بابتسامة ، وتساءلت بنفسي لماذا هذا الاستبداد الآن بالذات !! لماذا تحاول أن تتجاهلني بكلماتها ، خفت كثيراً أن تقابلني بالسخرية والمقت، لكنها هذه المرة كانت مختلفة كثيراً ، حتى طريقة حديثها كانت أرق مما سبق ، وكأن عرائس الشعور تكاثفت وتزاحمت فيها ، ولكن من سيقطع حواجز الطرق التقليدية ويتكلم ؟ لم يكن من بدٍ إلا وأن أسأل ..
كيف حالك الآن أنتِ يا حـ.... ،
فقالت بصوت متقطع من أين عرفت أسمي ؟
قلت لها بأني أعرفه منذ سنين طويلة ..
ابتسمت وهمت تقول الآن فهمت سيدي لأني أصبت بحادث قبل 5 سنوات وفقدت ذاكرتي ولذلك لا أتذكر الكثير ممن عرفتهم سابقاً !
توقفت قليلاً عن الحركة ليستتب النفور الجزئي الذي قبض على قلبي ، وقلت كنت أنا أحرى بذلك ، أنا من كان يجب أن يفقد مشاعره وأحاسيسه وذاكرته ليتوقف عن تخليد عذاباته الطويلة ، إذن تخلصت وإلى الأبد مني هذه المرة ،
لا بأس سيدتي ، أشكرك لجميل كلماتكِ ، أعتذر لأن هناك حصة في انتظاري ...
***************
بقلمي
إهداء إلى كل الأحبة في القصص