السلام عليكم و رحمة الله
مهداة الى روح اخي حسان الطاهرة
منك تعلمت حبيبي رسم القمر و منك تعلمت ابتسامة الأمل..
آه ..يا ابن امي و ابي ..فكان رحيلك زمنا لأحزان لا تنتهي ! .
و مهداة الى كل الذين هبوا لمواساتي و آزروني ( انظر الرد الأول أسفله ).
×××××××××××
عندما غاب الطائر الإسطوري عن المبيت على غصنه تلك الليلة..و عندما انقطع تغريده ذاك الصباح..
أيقنت أن زمن الأحزان بدأ ينتشر بين سراديب نفس هدها الإنتظار..
كنت أخطو بتثاقل نحو تلك القاعة التي تأويه في آخر أيام العمر.. و انا أتذكر آخر لحظات اللقاء ..حين جلسنا بالمقهي المجاور
نُلوِّكُ حَديثاً مٌفعمًا بِذكريات الماضي الجميل منه مرة و الحزين أخرى.. حديث ذو شجون .. قد لا تعاد هذه الجلسة! هكذا قال ..
ثم ابتسم و استمر الحديث .. ذكرني زمن النار و الحصار ..زمن الإعتقالات و يوم حملوني في واضحة النهار من بين أصدقائي و على مرأى من الطلبة ..
فعاد بي و هو يتحدث عن تلك الأيام الى زمن ظننت أني فعلا انتهيت ..و لن أتنفس بعدها عبير الحياة..
هنيهة وجدتني داخل تلك القاعة الموحشة ..صامتة و كئيبة.. جوها لوحة وجع لا ينتهي ..هنا تشكل الألم في أبهى حلله وانتشر الحَزَن..
في كل خطوة كانت تستوقفني الذكريات و تشمخ بأعماقي الآهات ..و هنا أسِرَّة رُتبت بإتقان لتحمل أجسادا هدَّتها نوازل الزمن ..
عندما وقع بصري على جسده انبهرت و هزتني رعشة ..كان ممددا على السرير و وجهه يشع شحوبة و قد اعتلته الذبولة ..
عينان مغمضتان و غائرتان في محجريهما .. و شفتان تهتزان من برد الإحتضار ..تقدمت نحوه في تثاقل السنين التي مرت على هذا الرأس الذي أحمله ..
على وجهه ان لم أقل رأسه تشابكت حبال لقنينة سيروم و أسلاك و قنوات بلاستيكية ..هو الآن يرقد جسدا بلا روح هكذا خمنت ..
اقتربت منه امسكت بيده فقبلتها ..جلست على الكرسي المجاور لأحكي أشواقي واشتياقي له ..زاد اندهاشي و انا أرى أخي
في وضعية حرجة يصارع الموت..آه ! كم هو صعب أن تسلم فلا يأتيك غير رجع الصدى ليخبرك الخبر اليقين ..
كم هو صعب أن نقدم أنفسنا كقرابين للجهل العلمي ..بالأمس قال له الطبيب عمليتك من أسهل العمليات و عليك أن لا تدع الأمر يستفحل مستقبلا ..
و اليوم هاهي حشرجة آثمة تتهادى الى مسامعي و صخبها يهز الجسد الراقد دون حراك ..شممت رائحة الموت ..
فصرخت في أعماقي آه !! قتلوك بهذه السهولة.. دار بي المكان و الزمن فتعطلت كل حواسي و صرت قطعة يابسة تلفحها حرارة الإحتضار ..
فجأة انفجرت باكيا .. أحسست بالضعف و الوهن و سال دمعي بغزارة ..بكيت بمرارة هذا الفراق المفاجيء كمجنون لم أصدق ما أرى
فنزلت بدواخلي أسراب الوجع كما تنزل النار بالهشيم..هو احتراق يا أحبة أن ترى أنفاسك تتهاوى الى قرار سحيق و أنت عاجز كل العجز
على فعل شيء لإنقاذ الموقف فتجتاحك رياح الهيستيريا و يزداد نواحك و يكبر أنينك ..كانت هذه آخر جلساتنا ..
و هو الآن يصارع الموت بعد أن دخل في غيبوبته ..دخلت ممرضة فطلبت مني مغادرة القاعة حتى يتمكن الطبيب من مراقبة المريض ..
قرأت عليه ما تيسر من الذكر الحكيم و دعوت له بالجنة ..غادرت القاعة حاملا أحزان الكون كله..فوجدتني أسير وسط ممر طويل !..
تائه أنا و مرارة الزمن الموحش تطل على ذاكرتي لتسقيني علقم فاجعة مرتقبة .. هنا على جنبات مكتظة جلست انتظر مع المنتظرين
و ما أحره من انتظار! بعد أن مر زمن في حجم دهر، خرج أحد معاوني الطبيب ليعلن و بكل بساطة عن وفاة رجل دخل المصحة في كامل قواه العقلية
و الصحية ..و ليخرجوه منها جثة هامدة..!
×××××××××××
كان الموكب الجنائزي يستعد ليودع المصحة ..أحسست بضآلة الحياة أمام نزيف الجراحات الغائرة التي تكبر في صدري..
فجاءت النهاية مدمرة و محرقة لتفصل بين زمنين ..زمن كان و ولى و آخر لا أدري كيف حل حاملا الضوضاء و الرعب و الفجيعة..
آه! يرحل حسان و انا هنا أتذكر وحشة الدرب بعده ..وقفت عاجزا مندهشا أمام هذا المصاب الجلل ..
فتيقنت أن غربتي زاد دخانها و أني على هذا الطريق سأداعب عمر الخريف .. تذكرت جدي حين كان يجهر آمرا بالمعروف و ناهيا عن المنكر..
يومها خمن أن فئة باسم العلم ستُتَاجِر في أرواح البشر .. ستتسلق سلاليم العلم في غفلة من الزمن و ستصنع أمجادها على أنقاض الآلام و دماء بني جلدتهم ..
ثم استردف قائلا تبا لهم و لعلمهم المذموم ! احذروهم إنهم حقا قتلة فوق القانون ..
كنت لاأزال هنا أنتظر ..و حين تحرك الموكب مضيت وراءه و أنا أجتر عذابات الضياع و عبثية الهروب و ربما لوعة فراق قد لا تنتهي ..
.( انتهى )
بقلم : جد عمـــــــــــر
××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××
|