عادة يومية لا محيد عنها ، أن أجلس في المقهى الشعبي القابع وسط زحام المدينة ، بعد أن أنهي يوماً مملاً في حجرات الحصص المدرسية الضيقة ، عندها تكون لي فرصة أخيراً لكي أرتب أفكاري وسط صداع المدرسة و ثرثرة أهل البيت ، أجلس في تلك الزاوية المفضلة ، هناك حيث يمكنني أن أرى كل شيء ، أن أبصر ما يكفي لأتأمل العالم من حولي ، أرى مختلف أصناف البشر ، شيوخ لا زال الزمن يرهقهم بأعبائه المادية ، حاملين معهم أكياس التسوق أو أغراضاً منزلية بسيطة ، علامات التعاسة والاكفهرار لا تغادر وجوههم التعيسة ، في الغالب لا يكون بؤسهم الا حول الدراهم التي خسروها بعد جولة استجمامية هي في الأصل تسوقية مع ذويهم ، ألم يعلمهم الزمن بعد أن شيئاً لا يستحق التعاسة ، أما آن الأوان ليدركوا حجم تفاهة الأشياء التي يمضون حياتهم أشقياء من أجلها .. يا للترهة !
لا يغيب عن ناظري في المشهد اليومي أصحاب الملابس الممزقة والشعر الطويل ، الدين يترنحون يميناً وشمالاً من فرط التشمم ، السكر ، السيجارات الرخيصة ، لا أدري أية حياة يعيش هؤلاء .. لا يكفون عن توسل المارة و استعطافهم وابتزازهم و مضايقتهم في أحايين أخرى ، وأفضل نتيجة ممكنة هي أن يربحوا بضع دراهم وسط ساعات طويلة من التسول والتوسل وممارسة كل أشكال الانحطاط ودس الكرامة الميتة ، وبعد أن يجمع الواحد منهم خمسة دراهم تكون نشوته الكبرى ، يشتري قارورة مقززة للكحول الخالص ، يظل يشرب ويشرب ، بعدها يعود لشوارع وسط المدينة ليمارس حماقاته من جديد ، لينام على الرصيف ، أو يضايق المارة ، وفي مرة لمحت تحرش أحدهم بمراهقة جميلة وأنيقة فابتسمت كأنما تعلن عن اعجابها ، يا لسخرية الأقدار .. !
أحياناً أستمتع برؤية صنف آخر من التحرش ، مراهقون صعاليك يقفون ساعات طويلة بلا عياء أملاً في الظفر بواحدة من حسناوات الشوارع ، وعندما تأتي الفرصة ويتفنون في القاء عبارات المدح الركيك للملابس واللون والهيأة يصعقون بتجاهل قوي من الحسناء التي تمر أمامهم ، هكدا قد يمضي مراهق منهم يومه واقفاً دون أن يحقق مراده ، يا للشفقة .. !
لكنها ومع الأسف شفقة يمتد صداها لذاك الجالس المتأمل في المقهى ، أن تلتقي ناظري مع فتاة جميلة فأبتسم لها معبراً عن اعجابي بكل أدب فلا تعيرني انتباهاً فهدا يبدو لي حينها قمة المهانة ، أضطر في داك الوقت العصيب لالهاء نفسي عن الفشل الوهمي ، كأس القهوة الدي أبخل عليه من الشرب البطيء لساعات هو وحده من يأنس وحدتي القاتلة ، كم تمنيت لو أن تلك الشقراء القادمة تأتي لتحطم هده الوحدة بانضمامها للطاولة ، تنظر الي نظرة تحمل عندي ألف معنى ومعنى ، ابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيها الرقيقتين ، أتابع الاسترسال مع التخيلات ، في الوقت الدي تتابع فيه هي سيرها ، وفي غمرة استسلامي لمتعة الأماني التي كانت عزائي الوحيد لوحدتي، تلمح أطرافي شخصاً اتخد مكانه في طاولتي ، تساؤلات سريعة تمر على خاطري قبل أن أتأكد من الحقيقة بعيني ، تراها تلك الفتاة ، مادا تريد ، كيف سأعاملها ، يا للروعة .. لالا انها ليست جميلة بما يكفي ، مادا ستطلب مني بحق الجحيم ؟ ، حبل التساؤلات العنيفة ينقطع باليقين الناصع المرئي أمامي ، هو رجل من أولئك الحمقى المعتوهين يطلب درهماً .... يا لـلــ .................... !!