أخيرا وجدته، أخيرا سأتمكن من التحدث مع هذا الشيخ الذي طالما بحث عنه .
لم أشأ أن أقترب منه لئلا تضيع هذه الفرصة الذهبية من بين يدي ، تركت له ولنفسي فرصة طويلة للاستئناس بوجه لم يألفه خصوصا وأني لست من أهل هذه الأرض الطيبة، يبدو أنه لاحظ ذلك أيضا وهو يرمقني بنظرات من أسفل قدماي إلى أعلى رأسي لطالما كرهت مثل هذه النظرات لكن لا بأس لن أخسر هذه الفرصة لمجرد نظرات قد أخطىء في تأويل معناها.
لا يختلف كثيرا عن الوصف الذي قرأته عنه أو الذي سمعت به، قامة طويلة ووجه مستطيل أبيض شاحب وتلك اللحية البيضاء التي تزيده وقارا وهيبة ، وجدتني وللحظات متعددة أحاول تقليد مشيته !
رأس منحني ويدان معقوفتان للخلف وخطوات محسوبة وثقة عالية بالنفس .
لم ألحظ توقفه ففاجئني بسؤال كنت أتوقعه في أي لحظة : من أنت ومن أين أتيت وماذا تريد ؟
تلعتمت وعقل لساني : أنا .. أنا يونس من بلاد سوريزنافيا .
رد : كلنا من سوريزنافيا .. تبسمت
وأجبت : أجل سيدي أعرف أعرف .. أوه ليس أمامه يجب إثارة تلك الحزازات القبلية أو الأبعاد الجغرافية ،
لم أفلح في انتزاع ابتسامة من شفتيه اليابستين فجمعت بدوري ابتسامتي بينما أعد الجواب لسؤاله عما أريد .
خطى خطوتين حانيا رأسه كأنه يعطيني الإذن بأن أتبعه فتبعته وأنا أجيب : أنا طالب بجامعة سور للتاريخ والجغرافيا وأنا هنا لأني أعد بحثا حول موضوع : تاريخ سوريزنافيا.
أطلق يديه رافعا اليمني محركا أصبع السبابة مما يدل على الرفض ، هنا تساقطت علامات الاستفهام على رأسي وتسابقت التساؤلات أمامي عن معنى الإشارة فأنا لم أطلب منه شيئا حتى هذه اللحظة ، يا إلهي لن أضيع كل هذا الوقت والجهد لأصل إلى هنا وأقابله ثم أعود بخفي حنين .
استمريت في تعقبه عله يجود علي بتفسير للإشارة ، أدخل يده اليسرى في جيبه فأخرج المفاتيح لأفهم أننا على أعتاب بيته، المفاتيح لا تدل على أنه يسكن قصرا كما أشيع حوله أو حتى منزلا فخما يليق بما قدمه من تضحيات !
وبعد لحظات قليلة أجده يقف أمام بيت متواضع ذي طابق واحد مزين بألوان أعشقها ورغم قدمه إلا أنك تلمس فيه نوعا من الفخر والاعتزاز كونه واحدا من البيوت القليلة التي كان يقطنها أهل سوريزنافيا منذ زمن ليس بالبعيد لكن هذا النوع لم يعد موجودا حاليا لتطور العمران وشبح العولمة الذي طغى على كل مناحي الحياة .
ما إن فتح الباب حتى عانقتني رائحة لا نجدها إلا في الكتب التاريخية القديمة فأفرزت كل غدد جسمي سيالات هيجت فكري وفتحت نفسي على القراءة والبحث ، لم أشأ أن أن أخترق المكان دون إذن من صاحبه فبقيت واقفا أنتظر كلمة أو إشارة تدل على الترحيب وذلك ما حصل بالفعل، استدار وطلب مني الدخول وبصوت هادىء قال : أتمنى أن يكون البيت قد أعجبك سيم وأنك من أهل المدينة التي اعتدتم فيها على الأثاث الفاخر والتجهيزات الكهربائية المتطورة .
شعرت بنوع من الخجل والارتباك والتردد ; بماذا سأجيب وكل ما نحن فيه كان بفضله ، حاولت اختيار كلمات مناسبة
فأجبت : شرف لي سيدي أن أتواجد بجانبكم في هذا البيت المبارك، كيف لا وهو مزار أهل سوريزنافيا كل سنة .
رفع رأسه ونظر إلى العلم الكبير المعلق على جدار البيت والمحاط بمجموعة من الصور التي تمنيت لو أحصل على نسخة منها صور لزمن ولى وصور حديثة مع شخصيات بارزة من مشاهير ورؤساء الدول صور ليست كباقي الصور المتناثرة في كتب التاريخ وهذا الكم من الأوسمة والشهادات التقديرية موضوعة على مكتب خشبي فاخر ربما هو هدية من أحد هؤلاء الموجودين في تلك الصور وإلى جانبه سرير لشخص واحد بجانبه خزانة كتب قديمة ، عرفت الآن مصدر تلك الرائحة التي عانقتني والتي لم ولن أستطيع مقاومتها كلما شممتها لم أنتبه لتواجده في الغرفة إلا بعد أن سمعت صوت ارتشافه من كأس القهوة التي يبدو أنه قد جهزها قبل خروجه طلب مني الجلوس وبادرني بسؤال لم يطرح علي من قبل حتى المشرف على بحثي: لماذا من دون كل المواضيع المستهلكة الآن اخترت أن تكتب حول تاريخ سوريزنافيا خصوصا وأن مصادر ومراجع هذا البحث قليلة وحتى إن وجدت فلن تكون بتلك الدقة والموضوعية في تناول قضية هذا الوطن الحديث العهد بالحرية ؟
أجبته بسرعة : لهذا السبب أريد أن أكتب لأعرف بقضية وطننا وليكون بحثي مرجعا لكل راغب في معرفة الحقيقة ولهذا اخترتك سيدي كونك الوحيد الذي يمكن أن يساعدني .
همهم وقال : ربما !
أعاد نفس الحركة التي كان قد قام بها لما أخبرته بعنوان البحث ، لم أفهم الأولى حتى يكرر الثانية ثم دخل غرفة مجاورة للغرفة التي نحن فيها وبقيت أفكر في سر هذه الإشارة وكل ما دار بيننا حتى الآن .
سمعته يحدد موعدا بعد خمسة عشردقيقة من الآن، لم أصدق ما سمعته لا يعقل كيف يفعل بي هذا !؟
بسرعة يخرج من الغرفة ويحاول توظيب المكان ونقل بعض الكتب والصورة للغرفة التي كان يتحدث فيها وأحسست وكأنه نسيني بعد ذلك لم أره لمدة عشر دقائق وكل ما فعله قبل أن يختفي هو أعطائي كتابا صغيرا ما إن طالعت عنوانه حتى فهمت معنى إشارته تلك بسبابته الدالة على الرفض،
يبدو أنه لم يستصغ عنوان البحث : بحث حول تاريخ سوريزنافيا .
سمعت طرقا خفيفا طرحت الكتاب وهممت بفتح الباب لكني نسيت الأمر ما إن رأيته أمامي ببذلته تلك التي يُضرب بها المثل في كل بقاع العالم، اللباس التقليدي لسوريزنافيا بلونه الأبيض يبدو فيه كملك نزل من السماء .
أشار إلي بيده بالجلوس وقال : أنا سأفتح أتمم القراءة .
فتح الباب لأرى مجموعة من الأشخاص من خلال شكلهم وهيأتهم يتضح أنهم ليسوا من سوريزنافيا يتسابقون لمصافحته وكلمات المدح تخترق المكان يبدو أني لست الوحيد الذي أراه لأول مرة ، مروا أمامي ومن شدة فرحهم باللقاء لم يلحظوا تواجدي ، أعينهم معلقة بوجه الشيخ وحركاتهم كلها احترام وتبجيل لشخصه ، بينما هم كذلك أخرجت دفتر مدوناتي وبدأت أكتب ما مررت به منذ خروجي من بيت منزلنا حتى هذه اللحظة لربما أجد لها مكانا في بحثي ذاك لكن ما سمعته جعلني أعدل عن فكرة تدوين مشاق الرحلة ولقائي بالشيخ "الأسطورة" وبدأت أسابق الزمن لئلا تفوتني كلمة مما يقوله ، يبدو من خلال الأسئلة المتكررة أنه لقاء صحفي مع إحدى القنوات العاليمة .
لا أكاد أسمع صوت ذلك الصحافي لكن إجاباته كانت مسموعة لي بشكل واضح ،
قال : الزمان : الساعة الخامسة والعشرون.
المكان : في اللامكان بين جثث مرمية على قارعة الطريق .
هناك في المدينة البعيدة قرب مدينتنا ...
حيث ضجيج الرياح وصمت الإنسان يهز المكان
حيث الوجوه المعلقة على ظهر الأرض تنتظر المصير المحتوم.
و ذلك الجلاد الضخم الذي تعيبه هزالته
والتي يخفيها بسيفه الطويل كحبل الظلام الذي خيم على المدينة المتوازية مع مدينتنا .
من ذا الذي سيعينني على فك طلاسم هذه الكلمات هكذا وجدتني حائرا أمام لغز وجب علي حله إن أردت تحصيل شيىء ينفعني في بحثي، ألقيت نظرة عليهم من وراء شق بباب الغرفة لأجده يتحدث وهم يقرؤون من كتاب قديم من الكتب التي أخذها قبل مجيئهم، تبدو الصور وكأنها مخطوطات قديمة حتى إن الناظر إليها ليحتاج لمكبر ليقرأها .
أجاب : لا لا لا كانوا يدفعونني نحو المنصة المعدة سلفا لهذا الغرض .
أجاب : أكيد أيقنت أن يد الشهادة تمتد لتأخذني للعالم الذي طالما انتظرته .. أعرف أن الأمر ليس هينا علي ولا على الأهالي .
بالكاد أستطيع رؤية شعار القناة على الكاميرا مما يستلزم بحثا آخر على تسجيل لهذا اللقاء في الشبكة العنكبوتية ..
لاحظت أنه يرفع صوته إذا أراد الإجابة ، كأنه يريد أن يسمع العالم بأكمله الحقيقة ويزيل بصدى صوته الزيف الذي طال القصة فهو لم يكن كذلك منذ التقيته كان صوته هادئا بالكاد أسمعه .
يجيب : كنت أتوق لأن أعانقهم فردا فردا .
يرد : ممم حينها لم أجد سوى أن أغمض عيناي وأتذكر اللحظات التي قضيتها في القرية وكيف استقبلني الأهالي أول مرة خصوصا أني أجنبي عن القبيلة التي لم أخترها عبثا .
يرد : أجل صحيح .. لما أصبح حبل المشنقة جاهزا تعالت الأصوات وبدأ التدافع ورأيت حمم اللهيب تتأجج في أعين الأهالي .. هم بالطبع لم يحضروا بإرادتهم إنما كان القصد أن أكون عبرة لمن يحاول المقاومة منهم بعد ذلك باعتباري رمزا لهم.
يبدو أن الصحافي ترك له حرية الحديث ولم يعد يقيده بالأسئلة وهذا من حسن حظي فحاولت أن أركز أكثر وأنسى كل شيىء محاولا الإنصات بشكل يسمح لي بألا أفوت كلمة واحدة مما يقول، كان صوته ممزوجا بشيىء من الحزن والأسى
وكيف أنه تمنى لو أنه ميت في هذه اللحظة على أن يرى المشهد الذي رآه حينئذ .
قال : قبل أن يدخلوا رأسي في حبل المشنقة سألوني إن كانت لي أمنية أو طلب قبل أن أموت ولم أكن لأفوت الفرصة تفلت من بين يداي فاستجبت للطلب الذي لم أكن أتوقع أنه سيحقق أمنيتي وخطر ببالي أن أطلب فك القيد عن يدي وإحضار ورقتين وقلم، فلما فكوا القيد عن يدي شبكت بين إبهامي محركا باقي الأصابع لتقوم الشمس بنقل الرسالة على الجدار الأبيض الذي كان خلفي فترسم حمامة أما الورقة الأولى فكتبت عليها شعرا يصف بلادنا تاريخنا ومجد الأجداد وطننا مستقبلنا وحلم الأحفاد، أما الورقة الثانية فرسمت فيها شعارا يعتز به كل سكان سوريزنافيا .
وبعد لحظات لم أعرف ماذا حدث بالظبط ولم أستفق إلا وأنا ممد على جنبات نهر الرُّويَان .
فهمت الآن سبب اختلاف الروايات والألفاظ في كتب التاريخ فما يمكن اعتباره نهاية هنا اخترعه الباقون ونسجوا خيوطه من خيالهم فألصقوا الخرافة بالأسطورة، لم أسمح لعقلي بمزيد من الشرود وأرغمته على الإنصات ... كنت أعاني من جروج على مستوى الرأس وألم في الكتف والركبة اليمنى لكن رغم ذلك تحملت الألم وعدت لمكان الإعدام لأجد الجميع يسبح في نهر من الدماء ولم يبقى ولا واحد منهم على قيد الحياة ولون الرماد هو اللون الذي تلون به المكان فالنار التهمت كل شيىء ولم تترك إلا الورقتين أما الجدار فبقي أبيضا وهذا سر تسمية لباسنا التقليدي الأبيض بالجدار .
ومع شدة تركيزي وإنصاتي لكني لم أستطع سماع أي شيىء آخر إلا بعض الوشوشات التي تدل على أنه فتح لهم ألبوم الصور استغليت الفرصة وأغلقت دفتري وأدخلت قلمي وأخذت أقرأ الكتاب الذي نصحني بقراءته وما هي إلا دقائق حتى خرجوا فودعوه ووعدوه بمفاجأة بعد أيام ودعهم بدوره وشكر لهم اهتمامهم ثم أغلق الباب .
مر من أمامي ، نظر إلي بنظرة خاطفة ثم أشاح ببصره ليستقر به على العلم الكبير المعلق على الجدار الأبيض ثم دخل الغرفة .
كنت أعلم يقينا أنا ما دونته لم ولن يكون كافيا للإحاطة بتاريخ هكذا دولة قصص هذا الأسطورة مختلفة ومختلف حولها في الكتب القليلة المتواجد في المكتبات لذى فإنه وجب علي لزاما أن أعد بدوري أسئلة مغايرة لما طرحه ذلك الصحفي وهذا ما فعلته ، أخذت أفكر وأفكر ليستقر بي الحال على مجموعة أسئلة كانت كافية في نظري لملأ محاور البحث معلومات وحقائق .
ما إن انتهيت من وضع الصيغة النهائية للأسئلة حتى وجدته أمامي وهو يطالع الورقات المتناثرة أمامي أخذ واحدة منها وقرأها ثم أطلقها في الهواء كورقة من أوراق الشجر في فصل الخريف خطى خطويتين والتفت إلي ثم سألني : هل ستبيت هنا ؟ فكما ترى لا أتوفر إلا على سرير واحد وكرسي خشبي قديم .
أجبت : آه أجل أجل لا بأس يمكنني المبيت على هذا الكرسي .. كنت أعرف إني إن خرجت من هذا المنزل لن أجد مجدد لذى كنت مستعدا لأن أبيت على الأرض حتى .
تركني ودخل غرفته ثم أطفأ النور .. لم أستمر بعده كثيرا فلقد نال مني التعب لطول الطريق ولم أستيقظ إلا وأشعة النور الدافئة تلامس خدي لأجدني مغطى
لم أستغرب الأمر لأني أعرف أصالة أهل سوريزنافيا .
ونحن نشرب الشاي طرح علي حوالي عشر أسئلة متتالية كلها كانت حول مساري الدراسي عن نظرتي للوطن عن بحثي وكنت أعلم أن أي هفوة ستكلفني الشيىء الكثيرة وكنت ألمس في نظراته التي تحاصرني رغبة جامحة في معرفة حقيقة هذا الشخص الذي يجالسه كأنه يريد أن يزرع بذور الثقة التي تبقى ناقصة من جهته حولي .
كنت صريحا معه في كل كلمة قلتها ولم أكذب كما أفعل دائما .
أفرغ الطاولة مما كان عليها وأحضر الكتب والصور التي كان قد أخذها ليريها لضيوفه وضعها أمامي يبدو أني نجحت في كسب ثقته وقرر أخيرا أن يساعدني
وضعه يده على كتفي وقال : هنا ستجد كل ما تبحث عنه وكل ما سيساعدك على إنجاز بحثك
وأضاف ولأول مرة مبتسما : واحرص على أن تحافظ عليها وقلب الصفحات بعناية ،
لم أصدق ما أسمع ومن شدة فرحي لم أعرف بأي كتاب أبدأ كلها كتب مختومة باسمه فهو الكاتب وللأسف كان وحتى الآن هو القارىء وحده لكني كسرت القاعدة وقضيت يوما وليلة أدون كل ما يمكن أن أحتاجه، وفي وقت متأخر من الليلة الثانية كانت المفاجأة فقد أحضر لي الصور والرسائل السرية التي كان يتواصل بها مع أهالي القرية وهذا سيكون بمثابة إنجاز يجعل بحثي أكثر أهمية .
لم أفهم سبب إقدامه على هذه الخطوة .. كأنه يستودعني أسراره، ربما رأى إصراري ولهفتي لإنجاز هذا البحث لكنه زاد عبىء آخر على كاهلي وهو إضافة محور آخر للبحث مما سيدفعني لاستشارة ذلك الدكتور العنيد .. أوووه كلما تذكرته انقطع حبل أفكاري .
أشرقت شمس اليوم الثالث ولم يبقى لي سوى تصوير بعض المآثر كمكان الإعدام والصور الأبيض لأعود لمدينتي وأعرض ما جمعته على مشرفي، حاولت ألا أحدث صوتا لكي لا أوقظه لكني صدمت لما وجدت الباب مفتوحا يبدو أنه سبقني بالخروج أخذت حقيبتي وتوجهت لمكان الأعدام الموجود في أعلى الجبل فترآي لي جسد معلق على الحبل تتلاعب به الرياح ، لم أصدق ما رأته عيناي وما وجدتني إلا أسابق الريح لأصل لقمة الجبل والأسئلة تسابقني والعبرات تتساقط تباعا وهذا الشك الذي يدفعني وهذا الإحساس الذي يخنقني ...
بقلمـ عاشق درويش ـــــي.