السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
*.........................*
* على رصيف احدى محطات القطار ،جلس طفلان احدهما طويل القامة،شعره اسود داكن وعيناه خضراوين خضرة الزمرد،اما الاخر فقد
كان قصير القامة جميل الوجه ذا شعر بني فاتح،مظهرهما رث وثيابهما متسخة وبرد الشتاء قد عصف على جسميهما النحيلين،
أسند الصغير رأسه على كتف صديقه وقال : احمد..متى يحين المساء؟ لقد تعبت من المشي في هذه الشوارع الخانقة ...
ثم لما علينا انتظار سفيان هنا حتى المساء؟ -اصبر يا عماد وكف عن التذمر.. سفيان مثلنا لا بيت له ولا اقارب فأين
يبيت برأيك ؟ دعنا لا نخذل صديقنا وننتظره هنا بعض الوقت
تأفف عماد وأخذ يلعب برباط حذاءه ...بينما يلتفت احمد هنا وهناك منتظرا صديقه سفيان..في الجهة الاخرى للمحطة كان هنالك
ولد يركض بسرعة حاملا معه علبة كبيرة ورغم كونه لا يختلف عن الطفلين الاخرين بملابسه الرثة ووجهه الملطخ وحذاءه الممزق
الا ان وجهه قد طبع بابتسامة ملائكية،اصطدم الفتى برجل ضخم البنية فجعل الرجل يسب و يشتم الولد بشتى الكلمات الجارحة
انحنى الفتى بأدب واعتذر من الرجل بلباقة،وتابع ركضه نحو الجهة الاخرى ..على وقع صفارة النداء الاخير للصعود..
وقف الفتى على مقربة من عماد وأحمد ثم قال :انهضا ايها الكسولان ..لقد جمعت ما يكفي من المال لعشاء دسم نملء به بطوننا
الفارغة ..هيا اتبعاني .كان الفتى هو نفسه سفيان ،وقد احتوت العلبة التي يحملها على آلة اوكورديون متوسطة الحجم
نظر سفيان الى احمد وقال :رغم اننا سنتناول طعاما جيدا الا اننا لن نجد مكانا ننام فيه فالمرة الماضية طردنا كالكلاب
لأننا نمنا في الحديقة العامة وهذا كله بسببك ..هذه المرة دع لي مهمة اختيار المكان واضمن لك اننا سنسبح في الدفء
انت فقط لا تخذلني الليلة وقم بعرض مبهر رفقتي..أمازلت تحتفظ بمزمار والدك؟
-نعم...ولماذا ؟
-لانني احضرت الاوكورديون خاصتي الذي حدثتك عنه
- ومن اين حصلت عليه..لا تقل لي انك سرقته ؟ او سرقت المال الذي اشتريته به ؟
- صحيح اني فقير مثلك ..لكنني لست سارقا البتة ..عمتي *أماني* ما عادت بحاجة للخردوات الموجودة بمرآب منزلها..فبحثت عن
شيء مفيد ووجدت هذه الآلة ..وانا بارع في العزف عليها يا صاح ..هيا بنا ننطلق .
انطلق الثلاثة يمشون بفرح وسرور،يدفع احدهما الاخر،وضحكاتهم المميزة تخرب هدوء المحطة بعد انطلاق القطار ..
وعندما وصلوا الى المكان المنشود...
----------------------------------------------
وعندما وصلوا الى المكان المنشود احس احمد بالغرابة فهو لم يعتد العزف امام حشد كبير،فقد كان المكان عبارة عن
ساحة واسعة اجتمع فيها الناس لاحياء احتفاليات بحلول الربيع،قدم سفيان بذلتين بسيطتين لصديقيه وطلب منهما ارتدائها
اثناء العزف من اجل ان يظهروا بمظهر لائق ويلقوا استحسان المستمعين ،كانت البذلتان قديمتان جدا الا انهما لعبتا دورا
في شد انتباه الحضور،عزف احمد ببراعة لكن العقول طارت لعزف سفيان على الاوكورديون الذي أذاب القلوب معه،
واكتفى عماد بالتصفيق وتشجيع الناس على وضع النقود في العلبة..بعد انتهاء الفقرة همس احمد في اذن
سفيان:وعدتنا بعشاء مميز وها نحن نعزف ببطون فارغة ووعدتنا بمكان للنوم وهانحن نكاد نموت تعبا ولا ندري اين سننام
الا تلاحظ انك اخلفت بوعدين بدل وعد واحد؟؟؟
-صبرا يا عازف المزمار...اترى الرجل ذو الشاربين الكثيفين والبذلة الفخمة الجالس هناك؟انه اهم شخص بالنسبة الينا في
هذا الاحتفال فهو يبحث عن اعضاء جدد لفرقته الموسيقية وان اعجب بعزفنا سيدعونا للانضمام اليها
- وما دخل هذا بوعودك ايها المتحذلق؟
-العشاء مجاني فيستحيل ان يبخل علينا هؤلاء الناس ببعض الطعام اما عن مكان النوم فنحن سنبيت في منزل عمتي اماني
لا تقلق فهي لن تطردنا كما اعتاد الناس فعل ذلك..
انتهى الحفل وتناول الاصدقاء الطعام وأثناء جمعهم لاغراضهم والمغادرة استوقفهم ذلك الرجل بين الحضور فقال :
- توقفوا ..اريد ان اتحدث اليكم قليلا..انا اسمي منير واعمل على تكوين فرقة موسيقية من الناشئين والاطفال والشباب
لتحي حفلات هنا في المدينة وقد اعجبت بما قدمتموه الليلة
أحمد:عجبا ،عجبا ..تبدو متأثرا بما عزفناه..انت اول شخص ينظر الينا ولا يقول:ابتعدوا من هنا ايها الحمقى
سفيان:صه..انه يحاول عقد صفقة هنا ..آه شكرا سيدي على الاطراءونحن جاهزون للانضمام الى فرقتك شرط ان تضمن لنا
مكانا ننام فيه وطعاما لنا ثلاثتنا ...
------------------------------
منير:بالطبع سأفعل ..لكن ليس ثلاثتكم ..فالصغير مثلا لم يفعل شيئا يذكر وعازف المزمار بدا غير قادر على مجاراة اللحن
والعزف بإتقان وما اريده في فرقتي هو اضافة فريدة من نوعها..كعازف اوكورديون بارع مثلك يا.... سفيان صح؟
-حقا؟..انا لا اريد ذلك ،من دون اصدقائي لن انضم اليك ابدا.
-كما تشاء،في حال غيرت رأيك هذه بطاقتي وبها عنواني ..يمكنك ان تأتي ونواصل عقد صفقتنا ايهاالموهوب.
ابتسم احمد ونظر الى عماد ثم قال :ليس عليك الرحيل سيدي ،انت لست بحاجتنا ولكنك بحاجة سفيان لانه بارع
هيا يا سفيان اذهب ولا تضيع هذه الفرصة..تعرف أين تجدنا ،نفس المحطة ونفس الزاوية ..هيا عماد فل نذهب للبحث عن مكان
ننام فيه..
-انتما لن تغادرا من دوني ..هاي.. اين تذهبان
منير:سفيان..لقد قررا الرحيل وهذا امر محتوم ..دعنا نغادر لتتعرف على اعضاء الفرقة ونخطط للحفل القادم..
مرت الايام سريعة ولم يعد سفيان يلتقي بصديقيه احمد وعماد،وتبدلت احواله فقد حصل على منزل وعمل وحظي بأصدقاء جدد
كان عماد يتضور جوعا وأحمد كعادته يخفي ألم جوعه بين أضلعه البارزة من ثوبه الممزق،جلسا في نفس المكان
غير قادرين على احتمال ألم الجوع والفاقة،سحب احمد مزماره وطفق يعزف لحنا حزينا اختلف عن سائر الالحان
واكتشف ان ما يميز عازف الاوكورديون سفيان ليس براعته او سرعته في الانتقال من مقطوعة لاخرى ،بل صدقه ومشاعره
التي تكاد تطغى على الالحان ،عزف احمد لحن فراق صديقه العزيز وفجأة ...
-------------------------
وفجأة اُحتُضِنَ لحن المزمار الحزين من طرف نغمة جميلة تنطلق من وسط المحطة ،انه ذلك الاوكورديون الساحر
لقد عاد سفيان الى صديقيه مُتخَليًا عن منزله وحياته المترفة ،قرر العزف مع احمد وعماد في المحطة لكسب
قوت يومهم ،وهكذا بات المسافرون يستمتعون بذلك الصوت الرنان في آذانهم انه لحن*اوكورديون الصداقة*
"تمت"