استيقظ باكراً جداً على غير عادته ، قبل أن تظهر الشمس عارية متخلية عن لباس الظلام الدي كان يحجب جمالها ، في هدا الوقت بالضبط ، يستيقظ العارفون لقيمة الحياة ، لتطمأن أرواحهم في هده الدنيا المتقلبة أحداثها ، وتسجد لربها ومدبر شؤونها ، لكنه لم يستيقظ من أجل من روحه ، بل أخد يهيأ جسده ليوم بدى له أنه استثنائي ، أعد محفظته التي تبدو أقرب لتكون حقيبة حاسوب محمول ، لكنه لم يدخل فيها سوى بضع دفيترات وأقلام من النوع المتطور ، ثم أخد يقص شعره بقصة ظن أنها استثنائية ، أو جدابة ، وأخد ينظر اليها مرات ومرات في مرآة تكاد تقربه طولاً معلقة في غرفته ، ولم يطمئن في النهاية الا لارجاع شعره لقصة عادية مألوفة ، فقد اقترب من أن يعلم أنه مهما بعثر في خيوط شعره فانه سيبقى ، انساناً ، حيواناً عاقلاً ، أو شبه عاقل ، يأكل ويشرب ، ويدخل للخلاء ، وبالتالي فان بضع شعيرات خارجة عن جماعتها لن تجعله انساناً من جنس ثالث ..
وبعد أن قطع عقرب الساعة الأصغر بضع دورات دهاباً واياباً ، وقعت على مسامعه خطى مألوفة ، وتحسس أنفاساً يمقتها بشدة ، وقد كان اعتقاده في محله عندما فتحت نور باب غرفتها ، اذ ذاك تذكر أن أخته تلاحقه أينما دهب ، سنة واحدة فصلتهما ، العام الماضي ، لتعود هده السنة لملاحقته من جديد في المستوى الثانوي التأهيلي، " تباً لهده الشقية ، لمادا تلاحقني أينما دهبت ، لمادا لا تدعني وشأني ، لمادا ، لمادا ؟ " ، لقد كانت معجبة بنفسها ، فخورة بيومها ، لأنه اليوم الدي ستضع فيه قدمها للمرة الأولى ، في دلك العالم الجديد ، عالم طيش المراهقة ، وثورة الشباب ، أو على الأقل هدا ما قيل لها ، لكنها اليوم لن تحتاج أن يقول لها أحد ، ولا أن تحكي لها صديقتها نهيلة عن تجاربها مع شبان قسمها ، هده المرة ستفتح هي نفسها هدا الباب ، وتدخل اليه مجبرة مكرهة ، حيث ادا دخلته لا يمكن الرجوع ، لا يمكن الا المضي نحو الأمام ، أما هو ، فلأنه عرف هدا العالم ، ولأنه دخل من دلك الباب ، فقد كره أخته ، وندم على اليوم الدي وُلدت فيه ، ليس فقط لأنه سيكون في يوم من أيام الله ناظراً اليها وهي تتأبط بذراع واحد من أصدقائه المتحررين ، بل أيضاً لأنه شعر أنها ستقلص حدود حريته ، لن يفعل كل ما يريد مثل العام السابق ، لن يستطيع معاكسة الفتيات وغمزهن وملاحقتهن بالطريقة التي يريد ، لن يتمكن من رسم خطوط أهواء حياته المدرسية بنفسه ، لأن هده الخطوط ولا شك ستعرقل مسارها في يوم من الأيام ، هده الفتاة التي بدت عليها لهفة غريبة دلت على مراهقة طائشة عندما سمعت صوت " طووط طووط " ، الدي كان طبعاً صوت السيارة ، التي ستقودهم لدلك العالم الدي لا يغادر مخيلة نور .
دخل ثانويته من أبوابها الواسعة ، لكنه ما ان ولج الى فضائها الشاسع ، حتى شعر بشعور لم يشعر به في يوم قبل هدا ، أحس أن هده المؤسسة التي مثلت أحلامه وطموحاته في يوم سابق ، أكثر ضيقاً مما كانت عليه من قبل ، خاصة وهو لا يستطيع منع نفسه من النظر اليها ، أخته ، وهي تعانق صديقاتها اللواتي بدت على ملامحهن جلياً آثار المراهقة السلبية ، مراهقة الوجودية ، والتحرر من قيود الآباء والأخلاق ، بئسها من مراهقة ، وقد فكر في أنها بمعانقتها لهاتيك الفتيات ، تعانق عالماً جديداً ، عانقه هو من قبل ، وأحبه ، ولكن شعوره تبدل وتغير عندها ، وقد امتزج بمشاعر متضاربة وأفكار عنيفة عندما رأى بوضوح فتاة تمر أمامه ، بدى على هندامها عناية فائقة ، وأناقة مفرطة ، وجمالاً طبيعياً رائعاً ، انها الانسانة التي وقعت في قلبه وقعاً قوياً ، مند النظرة الأولى في صفه العام الماضي ، وعندما كانت تحرك عينيها في جنبات الثانوية التقى بصرها ببصره التقاءاً فريداً ، فتركا العنان للغة العيون ، التي عوضت جزئياً لغة الأفواه ، لم يدرِ مادا يفعل ؟ ، لم يدر مادا يصنع ؟ ، لقد غادرت عينيها الجاحظتين الأماكن التي صادفتها بسرعة شديدة ، ولكن عندما التقت بزوجين من العيون ، كانتا عينيه ، ظلت تنظر اليهما ، وتقرأ فيهما عبارات صعبة التأويل ، أما ـ هو ـ ، فقد ارتبك ، خاف ، خجل ، أ يبقى ناظراً اليها ؟ أ يتجرأ للاندفاع اليها هكدا والسلام عليها ؟ أم يظهر نفسه على غير حقيقتها فيصرف نظره خجلاً واستحياءاً ، لا .. محال أن يختار الخيار الأخير ، ألا تراها تلك المسكينة لم تنقطع عن النظر اليك ، لم تيأس ، ولم تستلم ، انها تهفو الى كلامك ، أجل .. انها مهتمة بك ، هي أيضاً تحبك ، حاول اقناع نفسه بكل هدا وهي ما تنفك تغادره وتبتعد عنه شيئاً فشيئاً نحو قاعة دروسها ، وعينيه معلقتان في دلك الانسان الشبه المقدس عند قلبه ، وقد ظل هدين الزوجين من العيون معلقين ببعضهما الى أن لمحت أطرافه زوجاً آخر يشاركهما النظر نفسه ، لفتاة مراهقة تدعى نور ، ولم يزل عينيه عن هده الأخيرة الا وهو يرى شباباً بدى عليهم حظ وافر من الأناقة " المصطنعة " والمكر والخداع دخلوا مع محبوبته الجميلة لقاعة الحصة ، خشي أن يسلبوها ، أجل لقد سلبوها ، سلبوا سـارة منـك .. بمجرد دخولهم لتلك القاعة ! بل سلبوهما كليهما ، فأختك أيضاً دخلت القاعة المجاورة مع آخرين .... !