كـــرامــة لـلــبــيــــع ............................... بقلمي
آخر
الصفحة
ahcia

  • المشاركات: 5003
    نقاط التميز: 2283
كاتبة قصصية في منتدى القصص القصيرة
ahcia

كاتبة قصصية في منتدى القصص القصيرة
المشاركات: 5003
نقاط التميز: 2283
معدل المشاركات يوميا: 0.9
الأيام منذ الإنضمام: 5832
  • 21:36 - 2012/01/01

 

كرامـــــة للبـــــيــــع

أمّي ... أمّي لا أستطيع النوم، صرير هذا الباب اللّعين يزعجني

أمّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي

صرخت مريم بصوتها الحاد المزعج و هي تلف جسمها النحيل ببطانية سوداء بالية، كانت تخفي جسدها من رأسها إلى أخمس قدميها و كأنها تخشى  أن يسحبها الوحش الأسطوري إلى خارج الغرفة، ذلك الوحش الذي كانت تستنجد به أمها لتكف مريم إصرارها على امتلاك شيء محرم عليها امتلاكه في هذه العائلة المنحوسة.

العائلة المنحوسة ... تسمية أطلقها ماليك على أسرته البائسة.

قامت الأم من مخدعها متثاقلة و هي تلف أعلى جسمها بوشاح عبث به سوط الزمن، فتحت احد الأدراج المنخولة، و عبثت ببعض أوراقه، لتختار منها كومة من الأوراق البالية الصفراء، بدت كفواتير الغاز و الكهرباء التي تنتظر أن يدفع ثمنها.

طوت الأم تلك الأوراق على بعضها بإحكام ثم حشرتها بين شق الباب و إطاره، علـّها تشد أزر هذا الباب الهرم و تساعده على الثبات أمام غضب هذه العاصفة الليلية الهوجاء، كما كانت تشد أزر المرحوم زوجها، بتلك الابتسامة البسيطة على وجهها.

عادت تنسحب إلى مخدعها من جديد و هي تلعن هذه العاصفة: اللعنة، و كأنه كان ينقصنا هذه العاصفة الكريهة ؟

نطق ماليك ليخرج صوته المتهدج من أسفل البطانية: يا أمي لا تلعني الرياح فهي مأمورة

و تمتمت الأم: ظننتك نائما أيها الكسول، لماذا لم تقم لتسكت هذا الباب اللّعين؟

فرد عليها مبتسما: نائم   !!!....كيف تريدينني أن أنام و هناك عاصفة بالخارج و أخرى بالداخل، ثم أني لا أملك الأوراق لسد ذلك الشق يا أمي، لم يبق في جعبتي سوى ورقة واحدة تسوّلتها من صاحب الوراقة في الحي، لأكتب عليها طلب توظيف لإحدى الإدارات أو الشركات أو الدواوين أو ..... لست أدري ؟

فردّت شقيقته و هي مكفنة على حالها : هل تريد أن تدخل عالم غينيس للأرقام القياسية في عدد طلبات التوظيف المرفوضة.

فنهرتها أمّها: اخرسي يا شقية، و الله لئن قام إليك لن أتدخل لإفلاتك من بين يديه

فردت بصوتها الطفولي : أهااا هكذا إذا، اسأليه من كان يقصد بعاصفة بالداخل ؟

فردّ هو: هذا لأن صوتك المزعج هو من أفاقني و ليس صوت العاصفة بالخارج.

مرّت اللّيلة بسلام ليستفيق الصباح على ثلاث جثث مكفنة بلون موحد .

قامت الأم كعادتها لتحضر إبريق الشاي، على غير عادة الجزائريين الذين لا يبدؤون يومهم دون تناول القهوة السوداء الفاحمة.

عادات كثيرة تخلّت عنها هذه الأسرة، أو بالأحرى العادات هي التي تخلت عن الأسرة، القهوة عزيزة النفس، لا تجتمع مع نصف معاش تحت سقف واحد.

إبتسمت الشمس الكريمة التي لا تهتم للفوارق الطبقية على هذا الكوكب الأزرق الجميل

حتى الشمس الملتهبة تخشى هذا الكوكب الذي تغزوه ألهبة من صنع البشر، فاكتفت بالمشاهدة من مسافتها الجنونية، هاهو ضوءها الأبيض الصباحي يغزو رويدا رويدا صفحة الجدار الداخلي للغرفة، يتمسّح على إطارين معلّقين بمسمارين تآكلهما الصدأ، إطار يحوط صورة المرحوم والده، و إطار آخر يحمل شهادته الجامعية، التي باتت تفقد صلاحيتها عاما بعد عام.

إرتشف ماليك كوب الشاي الساخن، و هو يلوك في فمه قطعة من خبز باءت، تحاملت عليها أسنانه و لسانه بالتفتيت و التكوير، حتى استسلمت منكمشة على نفسها متجهة صوب بوابة اللاّ عودة.

لبس معطفه الأسود الهرم، و خرج يتأبط صندوقا صغيرا به ثلّة من علب السجائر، محلية و مستوردة، إلاّ أن مصيرها واحد، الحرق.

نزل درجات السلم المتهرئة، من تلك البناية التي تتوسع على طابقين تسكنه مجموعة من قوادم عائلات هذه المدينة، ينتظرون نصيبهم في توزيع السكنات الإجتماعية، و لا تبخل عليهم اللجنة السكنية بالزيارات التفقدية مرة عن مرة، نفس اللجنة و التسمية و لكن الأعضاء يختلفون كل مرة، حتى أصبح كمسلسل سمج، تدور أحداثه حول نفس الهدف، من يفوز بقلب البطلة.... من يفوز بسكن يحفظ كرامة المواطن في موطنه.

 منذ شهرين فقط، جاءت تلك اللجنة المكوّنة من ثلاثة أعضاء، رجلين و امرأة، يحملون بأيديهم كمّـا من الوثائق و الملفات، تجمّع حولهم سكان تلك البناية الأثرية، و تعالت الأصوات من جهوري و أجش و أنثوي صارخ ..... إلى متى ؟

سار ماليك في درب ضيّق، درب اليهود، كلّما مرّ منه تذكّر المرحوم أباه، حين سأله لماذا أطلق عليه هكذا اسم ؟

في هذا الدرب كان اليهود يملكون محلاّت لبيع القماش و المصوغات الذهبية إبّان الاستعمار الفرنسي، و بعد الاستقلال، فرّ اليهود تاركين كل شيء خلفهم، فهم يعلمون أنه غير مرحّب بهم بين الجزائريين، و بقي معروف بتسمية الدرب فقط ، قالها الأب و هو يهزّ رأسه بعد ما مر عليه ما يحدث في فلسطين.

نصب تلك الطاولة على ساقيها الطويلتين، ثم شرع ينفخ في كفيه تارة و يفركهما تارة أخرى، كان الجو باردا برودة الحياة في هذا الحي العتيق، و برودة أيّامه التي باتت تتوالى تنسج أعوامه على وهن،   إنها ليلة رأس السنة الميلادية، حركة غير عادية عجّت بها طرقات هذه المدينة العريقة جدا، مدينة شيّدت منذ عهد الفنقيين و ذكرت في كتب الرومان القديمة، الكل في حركة دؤوبة، أحس و كأن الزمن توقف من حوله، و أنّه قابع في مكانه يتفحّص وجوه المّارة، بين الفينة و الأخرى، يتدخّل أحد هؤلاء المّارة و هو يلقي بدينارين أو ثلاث على سطح الطاولة، قبل أن يسحب منها سيجارته المنشودة ليعود بسرعة جزءا لا يتجزّء من هؤلاء، كان هناك من يمرّ من أمامه يحمل بيده علبة مستطيلة بيضاء اللون ملفوفة بشريط الهدايا، تساءل في نفسه :

 ترى ماذا يوجد بتلك العلب ؟ و هو يتساءل تقدّمت منه امراة في عقدها السادس تحمل علبة تشبه تلك العلب، توقّفت بجانبه تلهث و تتصبب عرقا في هذا الجو البارد، قدّمت له تلك العلبة اللّغز قبل أن تنطق : إحملها عني قليلا ريثما أسترجع أنفاسي.

حملها بين يديه و زاد فضوله حتى بلغ حد الجرأة فسأل العجوز بتردد: عفوا يا حاجّة، ماذا يوجد في هذه العلبة ؟

فنظرت إليه نظرة لم يفهم إن كانت نظرة استنكار أو تعجّب و أجابته : la buche .

أجابته باللغة الفرنسية، فالذي يوجد داخل العلبة لا محلّ له من التعريب.

ثمّ التقطتها من جديد و غابت هي الأخرى لتنظم إلى هؤلاء.

مرّت الساعات تجرّ نفسها جرا، و قاربت الشمس على توسّط كبد السماء، حمل مليك متجره المتحرّك من جديد و قفل راجعا إلى بيته متسائلا على غير عادته : ترى ماذا حضّرتي لنا على الغذاء يا أم؟

حين بلغ درب اليهود، سمع دويا زلزل الأرض من تحت قدميه، وقف متسمّرا مكانه و ساد سكون رهيب، قبل أن يأتيه صوت جهوري خرق أذنيه :

 

البناية وقعت   ... البناية وقعت.

 

                                                                                                                             ...............................إنتهى

 

 

 كـــرامــة لـلــبــيــــع ............................... بقلمي
بداية
الصفحة