المِـلـح ( قصة قصيرة ) .. يُجرى عليها تعديل مستمِّر .
آخر
الصفحة
الربيع و الخريف

  • المشاركات: 11357
    نقاط التميز: 4961
مشرف سابق
كاتب قصصي في منتدى القصص القصيرة
الربيع و الخريف

مشرف سابق
كاتب قصصي في منتدى القصص القصيرة
المشاركات: 11357
نقاط التميز: 4961
معدل المشاركات يوميا: 1.6
الأيام منذ الإنضمام: 7104
  • 18:48 - 2011/12/31

 

سيُقال فيما بعد أن شاهر كان على صوابْ حينما زعقَ في وجه أكبر رأس تصدّرتْ عملية شراء أراضي الضيع المهددة بالغارات و الهجماتْ . لكن أحداً ممنْ اُعتبِروا من وجهاء البَلد و كباريتها تكلم . ظلّ الصمتْ سيد الموقف ، حتى عندما جاملَ البعض و فضَّل آخرون سلك مسلك المداهنة و المُهادنة .. كان موقف شاهر الغضب الشديد ، و قد قذفَ كل رأس بحجر حسب ادعاء الذين نافحوا عن أبو سالم ، الرجل الذي جاء في النهاية ليقشّ كل شيء ، الأراضي و السواقي و البهائم . لأن من المرجّح أن يقوم اليهود بالمباغتة في أي لحظة و لن يكون باستطاعة الرجال الصمود أكثر من ليال ٍ معدودات . هذا ما كان تُنذر به طلّة أبو سالم على عتبات المجالس و في كل مضافة كان ينزل بها لشرب القهوة و نفخ النركيلة .

سوى أن شاهر اقسمَ برحمة أمواته أن ذلك لن يصير ما دام الرجال فوق أراضيهم و بين جُدران أحواشهم . سيهرّبون السلاح بمعرفة بعض الثوّار من الضيع المجاورة ، و متى استقرّتْ البنادق بين أيديهم و كان بوسع واحدهم أن يُطلق ، فإن الأحرى بالرجال ثمتئذ ٍ أن يموتوا كي تعيشَ الأمهات و الأطفال بين أراضيهم و بيّاراتهم . و شاهر الذي لا يُحب الكلام كثيراً و لا المتحذلقين ذوي البذلات و الأحذية اللمّاعة ، بقي يحرث الأرض برجليه الضخمتين المُشققتين الحافيتين ، مكشوف الصدر و الظهر للهيب شمس العصر ، لا يكل عن دفع سنّ المحراث في ثُلم الأرض و شقّ بطنها بالمنجل الحديدي العريض ، أكان ذلك يتم بواسطة ثور أو بزنديه شديدتيّ السُمرة غزيرتيّ الشَعر .

تفاجأ الرجال بشاهر ، إذْ أنهم لم يعهدوا منه هذا المزاج و العَنترة . اعتادوا أن يبتوّا الأمور معه بكل تصافي و مودة و على بساط أحمديّ . و في حادثة جاره أكرم النادر أكبر مثال و شاهد على سِعة صدره و زنة عقله . إلا أن شاهر هذا المرة بدا كمن يحمل السُّلم بالعرض مُصرّاً أن القرية ستقف على قدميها أمام لسعة الخيزرانة الغريبة الغاشمة المتحيّنة . إنهم لن يذهبوا أبعدَ من قريتين من هنا و بحوزتهم بُقج و صرر خفيفة ، يوم يومين ثلاثة .. شهر إن طال اللجوء ، ثم الكرّ ثانية ً إلى البيوت . و السماور الساخن ، سينالهُ البرد قليلاً إلى أن يعودوا بالسلامة .

-       طيب فهمنا .. أجلَّ الله مقداركم .. و أبو سالم الزفتْ ما شأنه ؟

-       لا تقلْ زفتْ ! ، الرجل ما أخطأ بحق أحد يا شاهر ..

ردّ إسماعيل شُكري مستلماً دفة الكلام من شاهر الذي دخل المجلس  و هو في غاية الإضطراب و التكهرب . بعدها قام أبو إسماعيل برفع كأس الشاي الفارغ و الموضوع على طبليّة الخشب ، ثم قال ، و هو يُمسك الكأس عارضاً إياها أمام الجميع بين أصبعيه ، مُقِّلباً عينيه في الرجال :

-       أتصدقون يا ناس أن أبو سالم كان يدفع حق كاسة الشاي الذي يشربها في المضافة قبل أن يجلس .

و تناهى من الناس صوت الإندهاش و الإكبار .

هكذا كان . سلّم أناسٌ كثيرون أراضيهم لأبو سالم على سبّة الإيجار أو الرهن أو الوديعة . و هذا الأخير جعل يفرش الأوراق و الإثباتات التي تحمل بصمات الرجال و الأختام في كل محل ٍ تطأهُ قدماه و كل جمع ٍ يشهدهُ أهل القرية .

حاول شاهر مِراراً أن يضبط شعوره بالكره اتجاه أبو سالم و الذي أضحى يُسمى بالشيخ بين الناس . أول الأمر استقبلهُ تحت ظلّ تينة و شرعا يتكلمان في قضايا متنوعة تخص القرية و أحوال الناس و أخبار البلاد . و في المرات التالية لم يلمس شاهر في كلام أبو سالم ، الرجل المحنّك ابن السوق ، غير التلميحات و الحديث عن و ساطات و حالات مماثلة لأصحاب أراضي امتنعوا عن المشاركة في عملية التجميع و التحصيل . التزمَ شاهر الصمت فأقبضَ على انفعالاته و اندفاعه . و قبالته جلسَ أبو سالم بحطّته و عقاله يلفّ دخان الهيشة بيده المعروقة التالفة . كان على الأرجح بين الخمسين و الستين سنة ، في وجهه شامة و في مشيته عرجة واضحة . لا يُعرف بالضبط من أين جاء ، و لكنهُ اُستقبِلْ هنا كرجل محترم أو لنقل مُستثمِر ذو أعمال . شاهدهُ شاهر و هو يدوّر عمود السيجارة بين أصبعيه ، يلعق ثم يتفلْ .

لا بدّ أنهُ تذكّر الليراتْ و الدنانير ، حدسَ شاهر برأسه الفلاّح غزير الشعر و جبينه النّاز بالعرق أن هذا الرجل العجوز انتهى إلى نتيجة و خلاصة في الحياة مفادها أن الأشياء تتشابه في يد الشيّال ما دام قبض أجرته و نبضَ في عرق ظهره الحيل .

-       ها ! قل لي يا ولد العم ، كلامي عجبك أو لا ؟

-       أي كلام يا أبو سالم ؟

-       كلامنا المرة الماضية . باين أنك نسيتْ ؟

-       تكلمنا كثير كلام المرة الماضية يا أبو سالم . يا ليت توضّح و تحط أصبعك على الجرح .

- ماشي ، رح أكون صريح و مكشوف معك يا شاهر .. الأرض همّ البلاد يا ولدي . أنت سامع اللي يصير . اليهود أولاد الحرام ما خلوّا حجر على حجر و الخوف كل الخوف من التردد و التشتت .

- و المعنى ؟ ما فهمتْ ..

- لا ، أنت فهمتني مضبوط .

رفع السيجارة عالياً و نفضها بخفّة و زاد :

- أنت تهمني يا شاهر . الإنسان الذي لا يسلّم بسهولة هو الأحق بالإعتبار و الحسبان ، و الواحد في النهاية يكشف عن نفسه و يبزّ رأسه من رأيه و مواقفه . أنا ما نزلتْ من السما يا ولدي ، أنا مثلك فلاح ابن فلاح .. و إذا فكرك أني ما تعبتْ في حياتي ، فهاكْ .. اطلّع ..

شلحَ عن قدمه عارضاً لهُ التسلّخاتْ و الشقوق على حوافها و كعبها .

- بلا مؤاخذة . أنتَ شبّ و دمك فاير و ينقصك القلب الخبير المجرّب . الأرض يا شاهر مثلها مثل أي شيء ثاني في هذه الدنيا ، لكن الإنسان في نفسه غريزة التملّك و نزعة للبقاء ..

يعني اضرب لك مثل : بتقدر تحزر كم عدد الأراضي التي بعتها و اشتريتها ؟

قاطعهُ شاهر و قد نفد صبره ..

- مش رايد أعرف يا أبو سالم .. و بالمناسبة فنجان قهوتك بردَ على الطاولة .

- مقبولة منك .. فكّر بالكلام الذي قلته لك يا شاهر .. الأرض تروح و تجيء . تذكر أنكَ نزلتْ من بطن أمك عاري حافيّ .. ربك الذي يرزق و يعوّض .

- يمكن يا أبو سالم ، قلبي غشيم مثل قشرة البصلة .. و بيني و بينك ، أنت قلبك شاخ و يبس و صار يحتاج إلى تزييتْ . كلامك كله لا يعوّض لي شعوري بالفرح أمام الأرض لما تُبذر و تُفلح و تثمر . وقتْ ما ينوّر اللوز أو يعقد التين و العنب .

 

 

 

 المِـلـح ( قصة قصيرة ) .. يُجرى عليها تعديل مستمِّر .
بداية
الصفحة