),
"جلال" فارق الحياة .
كنت في المدرسة حين سمعت الخبر .
ركضت مسرعا إلى الحي ، كانت زمرة من التلاميذ تلحقني برفقة المدرس . عند باب العمارة، توقفت حركتي .
- لم يجدوا جثته بعد .
" العم أحمد " كان ينزل الدّرج و هو يكلم نفسه .
هل مات حقا . كان عقلي على أشد ما يكون رفضا للفكرة ، بالأمس كنا نصطاد السمك سوية عند الجرف الصخري . لقد كان يضحك كعادته .
"جلال" يكره الموت . لقد حدثني كثيرا عن أصوات كان يسمعها وهو يسلك الطريق المحاذية للمقبرة .. القبور تخيفه.
- ( لن أموت مثل أمي ) .
لطالما ردّد هذه الجملة أمامي . إنه لا يزال صغيرا ، لقد وعدني بأن يصبح غنيا عندما يكبر . لن يموت .. هو يكره القبور .
لم أشعر إلا وزملائي يطوقون جسدي عند باب العمارة . أحسست بدفء أنفاسهم على وجهي ، لقد كنت أبكي بحرقة.
المدرس أمسك بذراع "العم أحمد " وأجلسه عند أصل الدّرج . بعد حين إلتفّ الجيران حوله ، كان أحدهم يحتضنه بعنف . لقد كان ابنه الوحيد .
لم أرى "العم أحمد " يبكي من قبل .. لطالما كان صلبا . حتى عند وفاة زوجته لم يلاحظ عليه الناس أي حزن .. إنه يجيد إخفاء مشاعره .
بالنسبة لي كان مخيفا . مدرسنا أخبرنا ذات يوم بأن الإنسان يجب أن يظهر مشاعره وإلا سوف يمرض ..
" العم أحمد " لم يكن مريضا .. كنت متأكداً من ذلك ، كان يبتسم دائما عندما يكون مع "جلال " .
في الحقيقة كنت أشعر بالغيرة قليلا من علاقتهما. ففي كل مرة يصطحبني فيها "جلال" إلى بيته كان أبوه يستقبلنا بوجهه العبوس عند الباب .
لكن ما إن يبدأ جلال بالتحدث و إلقاء النكت حتى تطفر الدموع من عيني" العم أحمد" . لم تكن النكت مضحكة أبدا لكنه كان يضحك ملء شذقيه
برغم ذلك .. ربما وفاة أم جلال قبل أعوام جعلته مضطرا لتقمص كل الأدوار حتى وإن لم يكن ذلك من طبعه .
جلال وأبوه كانا يقتسمان غرفة أعلى العمارة . كانت تحوي مولدا كهربائيا ضخما في ما مضى ، لكن بعد أن قرر المالك طرد" العم أحمد" من عمله انتقلا للعيش فيها .
جلال كان يكره مالك العمارة . في نظره هو السبب في بؤس أبيه ، فمنذ أن ضعف بصر "العم أحمد" وهو يهدد بوضع شخص آخر مكانه
كحارس للعمارة ، لكن مازاد في سخطه هو إقدامه على طردهما من بيتهما في الطابق الأرضي بحجة أن الحارس الجديد وعائلته سوف
ينتقلون إليه . لكن استنكار الجيران ذلك دفع بالمالك إلى منحهما تلك الغرفة أعلى العمارة .
في الحقيقة لم تسكن أي عائلة الطابق الأرضي لأن أحد أثرياء الحي جعله مرآب لسيارته الرّمادية .
منذ ذلك الحين و"جلال" يمقت اللون الرّمادي . إنه لون القبور .. هو يكره القبور .
"
حالة "العم أحمد " أصبحت صعبة بعد خسارة عمله . حتى تلك الأجرة الرّخيصة التي كان يقبضها من يد المالك لم تكن تكفي حينها .
الكثير من الجيران حاولوا مساعدته . لكن جهل العم أحمد بأي صنعة أخرى وضعف بصره أحبطهم في آخر المطاف .
جلال كان يتألم بصمت . لقد كنت أشعر بذلك ، ضحكاته العالية لم تكن لتخدعني .. فقر والده وتلك الغرفة الباردة لم يشعروه بالألم يوما ..
لكن ثقل الهزيمة على كاهل أبيه حطم كل الزيف الذي كان يغلف قلبه .
فاجأني ذات صباح وهو يحمل صنارة الصيد ويخبرني بأنه سيعمل منذ الآن لمساعدة والده .
لقد قرر بيع السمك الذي يصطاده في سوق السمك عند المرفأ .. لم أصدقه أول الأمر لكن إصراره جعلني أغير رأيي .
كنت أرافقه من حين لآخر وأشاهده وهو يرمي خيط صنارته من فوق الصخور المدببة . في كل مرة كان يفعل ذلك تفيض الحماسة من وجهه .
- ( أترى أيها الجبان المدلّل .. لا شئ يدعو للخوف ) .
لم تكن تغيضني هذه الكلمات . فقط كنت سعيدا لأجله ..
في آخر الأيام . كنت أتركه بمفرده وأعود للبيت فقد أصبح يصر على البقاء عند الجرف الصخري برغم تأخر الوقت .
كنت أصادف "العم أحمد" دائما عند باب العمارة .. يسألني : هل ما يزال يصطاد ؟ فأحرك رأسي بالإجابة دون أن أتكلم ..
كثيرا ما وصلنا صوت العم وهو يوبخ "جلال" على تأخره في العودة . في بادئ الأمر كان يمنعه من الذهاب لكن إصرار جلال كان كبيرا .
بالأمس رجوته أن يعود معي عند مغيب الشمس ، كنت أتوقع أن يستشيط غضبا مثل كل مرة أدعوه فيها إلى ذلك .
لكنه في تلك المرة كان هادئا جدا . حانت منه نظرة نحو الأفق وقال لي : لا تقلق علي ، سأعود حالما تلفظني أسماك البحر .
"
سيارة الشرطة وقفت عند بهو العمارة . " الرّقيب عمّار " نزل منها . "عمّار " يسكن معنا بنفس العمارة ، هو أول من نقل الخبر إلى العم أحمد .
عنصران من الشرطة كانا برفقته .. أمسك يدي وسار بي بعيدا عن التلاميذ دون أن يتكلم .
صوت أحد الجيران وصلنا متقطعا :
- هل وجدتم شيئا ؟
عمار . لم يرد أن يجيبه ، أنا أعرفه لقد كان يحب جلال كثيرا . هو الوحيد الذي كان يسمح له بأن يركب سيارة الشرطة .
- لا . ليس بعد
نظراته تسمرت في الأرض ، لم يستطع النظر نحو العم أحمد .
حدست حينها بأنه لا يريد الإفصاح عن أمر ما . لقد بدا لي عاجزا ، أكرهني وأنا أراه في تلك الحالة .
- جلال لم يمت ! - صرخت في وجهه - لقد وعدني . سيصبح غنيا حينما يكبر .. لن يموت مثل أمه !
أمسكني" عمار " من قميصي ثم رفعني بكل عنف حتى قارب وجهي بوجهه . كانت الدموع تغمر عينيه .
- لقد مات . أتفهم !
بقينا على تلك الحالة للحظات بدت لي طويلة جدا .
- لقد شاهده أحد الصيادين العائدين بالأمس . إنزلقت رجله فاصدم رأسه بالصخور المدببة و هوى في الماء .
"
بالنسبة لي هذا الكلام بعيد عن فهمي . جلال صديقي الحميم و أنا أعرفه حق المعرفة ، لقد قرر أن يرافق أسماك البحر .. إنها تحبه .
"جلال " يكره لون القبور .. تلك الأصوات لطالما أخافته . الموت يسكن هناك بجوار أمه ..
سيعود ، أنا واثق .. لقد أخبرني بذلك .
لن انسى ما قاله أبدا : سأعود حينما تلفظني أسماك البحر .
إلى صديقي ..
أرجو أن تكون بخير .