كرة القدم السودانية، عُرفت منذ قديم الزمان بكثرة المواهب الكروية، والتي كانت تظهر بشوارع الأحياء وملاعبها منذ الصِّغر، وكانت الأحياء هي الخطوة الأولى لانطلاق تلك المواهب وانتقالها لروابط البراعم ثم الناشئين ثم الأشبال ثم الأندية، ومن ثم بروزها لعالَمَي الشهرة والمجد الكروي.

والمُلاحظ في السنوات الأخيرة، وجود نُدرة غريبة في خانات محددة مثل: حارس المرمى، وطرفَي الدفاع ونُدرة أغرب في كل خانات خط الهجوم.
بحثتُ قبل فترةٍ من السنين عن أسباب عِلل الكرة السودانية وعيوبها المُزمنة، فوجدتها بكل صراحة كثيرة، منها: ضعف اللياقة البدنية وفقدان التركيز أو ضعف اللياقة الذهنية في الجزء الأخير من المباراة، وقِلّة الثقافة التحكيمية، والمزاجية، و.... معظم ما يتطلبه لاعب كرة القدم بالسودان مفقودٌ.
يختلف الذكاء، وتختلف البنية الجسمانية من لاعبٍ لآخر، ويختلف الكثير، لكن حينما تجد أنه مع ذلك الاختلاف والتباين هُناك اشتراك في الفقدان المذكور أعلاه، فحتماً يوجد سببٌ أقوى من اللازم، ويؤثر بشكلٍ كبير على قدرات الجميع القوي منهم والضعيف، الذكي منهم أو ذو التفكير العادي.

فوجدتُ السبب قبل سنواتٍ قليلة، وتوقعتُ أن يتدهور واقع كرة القدم السوداني بفعل ذلك السبب، وقد كان، حيث نشهد اليوم نُدرة غريبة في حراسة المرمى رغم أن الاتحاد العام شدّد على عدم التعاقد مع حارس مرمى أجنبي، ونسمع الكثيرين يعزون سبب ضعف المهاجمين بالسودان؛ لوجود المهاجمين المحترفين بالسودان، وغيره من الأسباب.
أدلف بكم للسبب الذي بدا لي وأترك لكم فرصة النقاش حوله سلباً وإيجاباً.

السبب الرئيس الذي توصلتُ إليه، هو الملاعب التي يلعب عليها الصبية وشباب الحي، ويمارسون فيها كرة القدم...
نعم، هي الملاعب!!.
ليس لأنها غير مُنجّلة، أو بها حُفر، أو مغمورة بالمياه، أو ما شابه؛ بل لسبب أغرب..
وجدتُ معظم الملاعب صغيرة الحجم (نصف ميدان)، والملعب مقسوم على اثنين (ملعبين)، وكل ملعب به مرميين صغيرين، حيث لا يوجد حارس مرمى بالتأكيد، وعدد اللاعبين أقل من 11 لاعب.
نعم تضاءلت الملاعب لهذا الشكل الذي يُمكنكم تخيله إن لم يرَهُ السواد الأعظم منكم.
ربما يكون ضيق الملاعب أو عدمها أو الاستيلاء عليها، سبب، لكن (مزاج) هؤلاء اللاعبين للعب بهذه الطريقة على تلك الملاعب هو أيضاً سبب رئيس.
أيقنتُ حينها أن خانة حارس المرمى سيُكتب لها العدم شيئاً فشيئاً؛ فأين سيلعب الحارس وكيف يتدرّب أو تظهر موهبته؟! اختفى المرمى نفسه فهل سيظهر له حارساً؟!
وبالتالي سيُلقي هذا الملعب الصغير بظلاله السالبة على المهاجمين، فكيف يكون التسديد من خارج المنطقة ولا توجد أساساً منطقة، ولا حتى حارس مرمى، وأين ستكون الضربات الرأسية وألعاب الهواء؟!
وذات الأثر سيعود على أفراد خط الدفاع، سيكون هناك متوسطي دفاع فقط، ولكن أين سيكون الأطراف؟!

بكل أسف راقبتُ ذاك الوضع كثيراً، ورأيتُ كيف يلعب رواد هذه الملاعب الصغيرة حينما يلعبون لفرق الروابط، فوجدتُ الحال سيئاً جداً.
وجدتُ معظم اللاعبين عينهم على الأرض ولا يرفع اللاعب رأسه، فضيق ذاك الملعب لا يترك لك فرصة لترفع رأسك وتلعب البص البعيد أو التمريرة الخفية والذكية.
وجدتُ حُرّاس المرمى يقفون خارج الخشبات، لفقدانهم لحاسية المكان؛ لأن معظم لعبهم على ملاعب خالية من المرميين القانونيين.
وجدتُ المهاجمين يهاجمون من العمق فقط، ولا يوجد تهديف من خارج المنطقة، ولا توجد ضربات رأسية مُتقنة، ولا يوجد خط هجوم بالمعنى المراد.
وأخطر نتيجة بعد ذلك العقم الهجومي، أن المهاجمين لا يعرفون قواعد التسلل، بل وحتى دفاع الخصم لا يعرف كيف ينصب المصيدة ويتفاجأ المدافع والمهاجم حينما يصفر الحكم للتسلل، ويستفسرون الحكم عن سبب الصافرة!.
وجدتُ أطراف الدفاع يسهل المرور منهم لأنهم يعتمدون على الخشونة والمكاتفة في ذلك الملعب الصغير، فتأثروا بذلك، وحينما تُمرر لهم الكُرة يتجهون بها لمنتصف الملعب كشعور لا إرادي نتيجة اللعب في ملعب صغير باستمرار.
باختصار وجدتُ اللعب ينحصر في وسط الملعب ويمررون الكرة بتمريرات قصيرة يُقطع معظمها لأن عدد اللاعبين في الملعب أكثر مما تعوّدوا عليه.
وأخطر ما وجدته أنهم حينما يأتي الشوط الثاني تجد الكل يلعب على الواقف؛ لانعدام اللياقة البدنية، لأنهم تعوّدوا على اللعب لساعة أو أكثر قليلاً، ولم يتعوّدوا على اللعب بالزمن المطلوب، ولم يلعبوا في ملعبٍ كامل باستمرار.

بصراحةٍ أكثر، أتوقع مزيداً من التراجع في مستوى اللاعب السوداني مستقبلاً؛ لأن المشكلة الكبيرة لا زالت قائمة.
ولعلنا نُلاحظ تكرار اللاعبين بين الأندية بصورة غريبة ونجد أن الانتقالات صارت بعض وجوه اللاعبين فيها مكررة ومُعادة.
لأجل ذلك لم تعُد المواهب الكروية كما كانت، حيث أن لاعب الكرة ينقصه الكثير ليُكمله أولاً، ثم تظهر موهبته الحقيقية، والبعض حينما تظهر موهبته الحقيقية يكون عمره الرياضي قد شارف على الانتهاء ودنت لحظة الاعتزال.

|