الإهداء ..
إلى التي ما زالت رائحتها تتداخل مع أبار روحي ، إلى التي علمتني أسرار الوجدان الذاكي.. إلى الأم العراقية والروح الثاوية في قمم الرفعة ..
جدتي رحمها الله.
****
قدم الاحتلال العثماني إذ ذاك إلى أرض الوطن فقررت أن أكتب إليك بنيتي الغالية وأنا اناجي ظلمات غربتي عنكِ ، أعلم أنكِ الآن بين ظلال الصمت المتصدعة بضمور السعادة ، ولك يا إيتها البنت الغالية أرفع ندائي .. وأرسل أشواقي على جناح ياسمينة محبة ..بنيتي الغالية لم يكتب لك مشاهدة أبوك فلقد رحل عن عالمنا وكنت أنتِ في بطني ، أتمنى أن تجدي في حياتك السعادة ..
أمك المحبة ..
كانت تلك آخر الكلمات التي ارسلتها الحاجة صفية إلى أبنتها ناجية ، لم تكن تتجاوز السبع سنوات ، حيث توقف قطار السعادة عن مجاورة الحلم والسعادة ، ما أصعب على المرء أن تدك ورقات عمره رشقات الألم والحزن الدفين ، وهكذا قارعت الحاجة ناجية منذ أمد العمر ثورة الكبرياء التي استلتها من أطياف الخلود القدسية ، تداعت أسوار لحظاتها ،وتطامنت أسرار غبطتها ، فقد كتب عليها الشقاء بعد الآن ،تورعت ترنو إلى أفقها المشوب يدس في حفاوة براءتها فيض القساوة ، الحاجة تنتقل عبر الزمن دون أن يلتفت إليها الحال ، فتقعد فوق لقاءات العذاب الخفاقة ، وهي تشرع تبحث عن لقمة العيش ، تتحول تلك الفتاة المشرقة ، إلى فتاة تغسل الملابس لكسب قوتها اليومي ، تخرج من بين تلع مدينة البصرة المحبوكة بشناشيلها ، ونخيلها السامق وتبسط الشمس أشعتها فوق سفوح النهر " الشريعة " المجاور لتلك البيوت ، وتهم النسوة مجتمعات يغرفن من تلك المياه لينظفن ملابس الغرباء ، قسوةٌ سقطت من أعلى مديات القساوة وفتحت دفتيها فوق رؤوس الممتحنين ، ثم تجيء الفتاة ذات الرداء الأسود وهي تفك عقدة الخيط حول الملابس ، وترسلها إلى تلك المياه ، تصطك الملابس مع مرايا المياه فتسبر أغوار القذرات التي أجتمعت فوقها ، وهي لن تدرك أنها تنظف بذلك مسحات الأمل المتفسخ وتلوذ عن النسوة الصابرات ..
ما أجمل ذلك الأجتماع والأنبثاق بين الفقراء على ضفاف النهر ، حيث لن يترنم الغني فوق رؤوسهم ، ولن تسفع نوافذ قلوبهم الحرة نتوء الكلمات الموبوءة ، ظلت الفتاة التي قدمت للتو تفرك تلك الملابس وحولها النسوة ينظرن بشزر ، وراح التساؤل يرتق الفراغ ، من تلك الفتاة ؟
ولم يمضي الوقت إلا وعرفن إنها أبنة الحاجة صفية التي أرتحلت إلى عالم الأبدية ، ظلت وحيدة تقارع هوان الحياة ، ولم يتبق لها سوى خالتها وابنها الصغير ، وكيف تمضي في هذه الحياة دون عمل ؟ كانت ناجية تنظر بغبطة لتلك الفتيات المحلقات في سماء السكينة ، وتشرع تفتكر ، يوجد لكل فتاة أب وأم ، أما أنا فقد تخطفني العذاب ، وأقحمني رغم غني في فوهة الألم ، كانت تنظر إليهن يمارسن لعبة " الطاق " ولفائف الأسى تتوسد بين مسافات قلبها المفتول حرقة وشجون ، وأنى لها أن تدرك إن براءتها قد سحبت منها واضطجعت في فكوك العدم ! وبدأت رحلة الألم ، وانتثرت إيماءات الهمة الخفاقة في منافذ الرجاء ، يستمر عمل غسل الملابس لتسد رمق الجوع والعبث ، كم كانت تعود مرتهكة المفاصل ، وقد هادنت قواها جسدها النحيف ، تطحن الشعير في ألة " الرحى " مع خالتها ليصنعوا منه الخبز ،تظل تسهر على ذكريات ألقتها الحياة صوب اللاعودة ، ذكريات لم تنفك أن تتخلل احتراقات الدموع ، لم يكن البكاء يشفع إليها وإن كان يفضي قلبها من إساءات الحياة ، لكنه لم يرأف بحالها ، لعل البقاء قرب خالتها يجعلها تستروح نسيمها لأنه يحمل عبق أمها ،تكبر ناجية وهي تتمخض الشقاء في مسافات حياتها ، تتزوج من الحاج عبود ، كان ذلك السيد الجليل قد تزوج قبلها مرتين ، رغم ذلك فقد كان شخص نبيل ذو حكمة، إنسان زاهد ورع، وجدها الإنسانة المنتفضة على وحشة الزمن وتسلط البشر ، أحب فيها روح الحياة، وافقت ناجية آنذاك لتحتفي ببعض من الراحة ، فكم اشتاقت لموئل ينسيها لفحات الشقاء ، تنجب ثلاثة أطفال ، ولدان وبنت ، ثم ينتقل الحاج عبود إلى جوار ربه معانق دعواتها وحبها ، ذاقت طعم الهناء بعد فراق طويل ، لكنه لم يدم طويلا ،وعادت لتلك اللحظات المنزوية في غرف الحرقة، الشعور بالوحدة ،كما حدث ذلك قبل سنين عندما رحلت أمها ، ثم تعود مرة أخرى تعمل في " الخبز " ليأكل صغارها من ثمن بيع ذلك الخبز ..
ظلت صامدة في وجه عواصف الدنيا ،باسلت حتى تفصد السقم في جسدها ، جلست تستقطب إلى أفكارها في آخر لحظاتها ، دخولها على أمها وهي على فراش الموت ، كانت طفلة تنظر بعيونها الدامعة إلى جسد أمها الموارى ، راحت تحدق في عيون اهلها وهي تحكي تلك القصة ،إني ولدت ولم تشأ الأقدار أن تريني والدي ، وعندما أكملت السابعة فارقت امي الحياة ، ظلت حياتي تواكب الحزن والشقاء ، سادعو من الله أن يمنحكم السعادة ابنائي، أخرجت تلك الورقة القديمة ووضعتها في يد أبنتها ، ترقرق الدمع من عينيها ، ظلت ترواح عيونها صوب أولادها ، ثم تحررت إلى عالم الخلود ، لم تنقضي معاناتها ولم تنتهي إلا عندما لفظت آخر الأنفاس قرب أهلها وأولادها الذين سوف يفتخرون بتلك الأم الصابرة ، تلك الأم العراقية الممتحنة منذ الأزل ، واليوم بعدما طمر نهر الشريعة ، وظلت الشناشنيل تصارع الهلاك ... تظل صرخات توجع الأبرياء تقبر ذراري الهواء ، دون أن يشعر بها أحد ، هنّ نسوة قدمن إلى الحياة ليزرعن فيها الأباء ، ولتمضي كما بدت ، وتجعلها اكثر أمل واشراق .
****
الشناشنيل :: بيوت مزخرفة بواسطة الخشب تم بنائها قديماً ، كان يقطن فيها المترفين من سكان البصرة
وقد تجد ذاك موجود في ديوان الشاعر الكبير البصري بدر شاكر السياب " شناشيل أبنة الجلبي "
وهي من معالم التراثية لمدينة البصرة ، القصة حقيقية .
بقلمي