بين الربيع و الخريف
بين الربيع و الخريف ، صيفٌ مِن لونِ زرقةِ السماء ، صفاؤه يضاهي صفاءَ أفقٍ يناجي مويجات البحرِ الوديع . عنفوانُه يوازي عُنفوانَ شبابٍ لم يدرك بعدُ وقعَ دبدبةِ المشيب . أيّامهُ معدودةٌ مِن جُلّنارٍ تخشى مُداهمةَ أعاصيرِ الخريف . . صيفٌ ينادي الجموع ، " هلمّوا جميعكم ! أفرحوا ، أرقصوا ، أقيموا الأفراحَ و صففوا الأباريقَ و الأقداح .. أنشدوا القِممَ و مروجها بين شلالاتِها ستُكرّس الذاكرةُ رونقَ الأيام و قوّةَ الأبدان . اِستجيبوا ! ريحُ البحر المُفعمِ بنسائم الصباحِ ينادي ، فوق أمواجهِ الآمنةِ مدِّدوا الظهورَ و العينُ صوبَ الأفق تراقب النوارس .. على بساطِ الرمالِ الصافيةِ التحفوا حُمرةَ الشفق القانية ، تأملوا رحيلَ أسرابِ الأطيار نحو الأوكار عند توغل حُلكةِ الغسق ، وميضَ فَرقدِ السماءِ يتلألأ على وقع سمفونيّةِ المدّ الكلاسيكية ، سِحرَ المكان و الزمان الراقصان على صفير السفن .
بين الشباب و المشيب ، حيرةٌ مِن لون الضباب تناشدُ المرآة ، تتوسلها الاعتراف بعنفوانٍ تحتلهُ الكهولة القابعة على رصيفِ الهَرَم . صراعٌ فوق جمجمةٍ ميدانُها الأسوَد يوخطهُ البياض . السوداءُ منها مِن زمرةِ الشباب تتفوق عددا ، تحتجّ مرتبكةً على اجتياحٍ أبيضَ استوطن فجأةً هنا و هناك . لتأكيد البقاء و حماية الأوطان في ميدان العنفوان ، تتضاعف الأنشطةُ ذات الطابع الشبابيّ في أزمنةِ الوهنِ العضليّ .
يا سبحانَ الله ! صباحٌ صيفيّ مِن لون الحرباء أشرقَ مبتهجاً لتشوبه فجأةً عواصفُ الجنوب .. دويّ رعدٍ قاصفٍ مِن جهةِ البحر يهُزّ الضاحية . مِن خلال نافذتي المطلّةِ على البستانِ ، أرى السماءَ بعظمتها تستسلمُ لعُدوانِ الرّماد ، تكادُ تُرسلُ الدّمعَ المُضرّجَ بالتراب . و الطاووسُ الرافلُ يجُرّ الذيلَ متخلياً عن كبريائِهِ لينعمَ بالأمانِ في خُمِّ دجاج عفن . غصّ الغبار .. الغمامُ يكادُ يُمطر ، و سيارتي غيرُ جاهزةٍ لتُقلني إلى مكتبي في المدينة .
ـ " آهٍ ! كم أكرهُ ركوبَ الحافلات ! صار لي عقد منَ الزمان لم أركبها "
لبستُ سروالَ الجينز المبرعمِ برموز الحبّ ، " الجاكيت " الأسودَ الجلديّ المنتفخ الجوانب ، و الحذاءَ الرياضيّ المنيرة مصابيحه في العتمةِ الحالكة .
خرجتُ أحملُ محفظتي في اتجاهِ موقفِ حافلةِ الضاحية ، عبر الممراتِ الطينيةِ مشيتُ الخيلاء ، أتجنبُ الحفرَ الموحلةَ خشية من تلطيخ السروالِ و الحذاء ، العواصف لم تمنعني مِن إلقاءِ تحيّة الصباح على كلّ حسناء عابرة تقصدُ بدورها الموقف .
اِنطلقتِ الحافلةُ غاصّة بطلابِ الجامعةِ ، تهرولُ كحصانٍ يجرّ عربةَ أثقالٍ بين صنوبرٍ متكافئٍ على جنباتِ طريقٍ ملتوية . فتياتٌ يانعاتٌ شفاههنّ مِن لون الزنبق ينسابُ منهن عطرٌ بمختلفِ النّكهات ، شبانٌ مُفعمون بالحياةِ قهقهاتهم تنبجسُ مِنَ الغَورِ العميق ، تلك تستخبرُ زميلا مِنْ صنفها حارصة على سرّ الحوار ، و ذاك يربّتُ على كتفِ رفيقته ناطقا بعبارات مشفرةٍ لم أفقه فيها شيئا . حوارات و حركات لا عهد لي بها ، و كأنني ما شهدتُ يوماً عواصفَ السنوات الأربعين ..
الفضولُ غايةٌ يصعبُ تجنبها ، و غايتي دفعتني أن أقتربَ أكثر من هذا أو تلك ، أرغب في الحوار الأبيض المائل إلى الورديّ . لمَ لا ! ألستُ مِن زمرتهم ؟ ألا ألبسُ ما يلبسون ؟ ألا يحق لي على الأقلّ أن أبدي رأيي نحو العاصفة الهوجاء ؟
مِنَ الفضول ينبثق النفور ، كلما تقدمتُ خطوةً تتراجعُ الأخرى خطوتين ، و كأنهم براعم بنفسجية تتشاءم مِنْ كلّ أصفر تبنيّ .
اِندفعتُ مرتبكا نحو مقدمة الحافلة ، و يا ليتني ما كنتُ فعلت ! فتاةٌ في عمر الورد تحاول النهوضَ من مقعدها سمعتها تنادي :
"عمي الحاج ! عمي الحاج ! تعالى ! خُدْ مكاني لكي لا يصيبك العياء ! "
اِلتفتّ مِن ورائي باحثا عن العجوز المنادى عليه ، لم أجد غير شباب ضُخام رؤوسهم تناطح سقف الحافلة ، قبل أن أردّ الطرف إلى الأمام ، يدٌ ناعمةٌ من حرير تمسك يدي ، وجهٌ صبوحٌ يجعل العينَ يطفح منها الأسف الأبكم يواجهني : " من فضلك عمي الحاج ! إجلس في مكاني ! " .
جلستُ و الجبينُ يتفصد عرقاً . مصطلح العمّ لا عهدَ لي به ، لأول مرّة يُطلبُ مني جلوس من هذا النوع .. ما بال هؤلاء ؟ تبّا لكم ، من تحسبون أنفسكم ؟ من أنتم ، من أين أتيتم ؟ لو أستخدمُ القوةَ التي لديّ ، سوف أطهر الحافلة من تعجرفكم فرداً فرداً .!
بعد الغروب عدتُ أدراجي إلى الضاحية . اِزداد هول العاصفة ليبلغ أشدّ ذروته ، اِنقطع التيار الكهربائيّ إلا مِنْ شعلةِ شمعةٍ تحاول تبديدَ عتمةِ الغرفة . أما عتمةُ الفؤاد فلن تذروها رياح الخريف منذ الصباح .
متجهاً نحو مرآة المنضدة عثرتُ بالصدفةِ على الدّفتر العائليّ ، كانت صدفةً جدّ مناسبة ، قد تمكنني من مقارنة ملامحي بملامح صورة لي أخذتها منذ عقدين . و أنا أتصفح وريقاتها ، شيء ما رطبٌ نديٌّ يلامسُ بناني ، و بما أنّ الظرف العويصَ يحثني على التمعن في كل صغيرةٍ و كبيرة ، تمعنتُ في وضع الأوراق قبل الصورة ، فافتكرتُ أخيراً أنها كانت في عهدها الأول بيضاء كشعلة البدر في ليلةٍ قمراء ، و ها هيّ ذي أمامي الليلةَ ذابلة صفراء تكادُ تكون مرتعاً للأرضة .
رميتُ بالدّفتر على المنضدة ، ثم أنزلتُ وابل غضبي على المرآة .
أيتها المرآة المطلية بمرهم الصفاء و النقاء ! لا أظنك إلا منافقة تجاملين كلّ من يتوسل رأيك فيه ، لو مكثتُ أمامك مائة ربيع لما هبّتْ من فصولك الرنانة رياحَ خريفٍ .. ما أخبثك أيتها اللعينة ، لِمَ لا و أنتِ إن أصابكِ كسرٌ طفيفٌ تلعبين لعبةَ الحرباء ، لِمَ لا و أنتِ إن دُعِّمَتْ خلاياكِ تجعلينَ مِنَ الأرضةِ عملاقا !
أما أنت أيها الخريف ، منذ الصباح فقط كنتُ لا أرغبُ في لقيلاك ، لا لشيءٍ إلا لأنّ عواصفك تلهو بزخرف الحياة ، أما الآن فأنا أمجّد ثورتك ، أدركتُ حكمتك بالتمام ، لقد فهمتك ، منذ اليوم لن أقول لك إرحل ، لأن رحيلك ستليه و تليه عودة ميمونة كلما عاد ربيعك .. أما ربيعي فلا أظنه عائد ، لم يبق منه إلا كراسا من لون الربيع مبرعما بالزنابق و ريحان الجنان ، سوف يواسيني أثناء رحلة خريف يستأنف للتو في نفض أوراق الأيام .. أجل ، تلك سنة الحياة ، لم يبق إلا اليقينُ من أن ربيعي ولى و أفل ، و خريفه دنا و أقبل . عبدو عيني
|