لغة الأحرار
تجلت أشعة الشمس من نفس مكانها المعتاد، تراها؟ ألم تسأم ذلك المكان يوما؟ تماما كما سئم منصور مكانه في تلك الزاوية الرطبة، مضى على الحادث ثلاثة أشهر كاملة، و لا تزال قدماه معلنة الإضراب، حتى ذلك الراديو الذي اعتاد استئناس وحدته، ما له اليوم قد سكت؟
أغمض عينيه للحظات و هو يسترجع ذلك الشريط الوردي، حين كان يركض حافي القدمين تصفع الريح صدره و وجنتيه، حين كان يتسلق أشجار الزيتون، متلصصا على أعشاش الزنانير، و حتى تلك اللحظة، التي كان يأخد فيها فلقة من معلم القرآن في الكُتاب، هربت ضحكة عفوية من بين شفتيه، قبل أن تتجمد على ثغره المضمحل، حين لاحت أمامه تلك اللحظة التي سلبت منه كل اللحظات.
قرع خفيف قبل أن يفتح الباب، و تجلى وجه زوجته الحنونة، و قد بدت عليه سطوة قلة الحيلة، ابتسمت له مخاطبة: انهض أيها الكسول، لقد جاءك زائرين.
فرد عليها مستغربا : في هذا الوقت المبكر !! من يا ترى ؟
- إنه مدير الشركة و بصحبته رجل
مدير الشركة أو مصاص الدماء كما كان يلقبه العاملون عنده، كان رجلا جشعا، قليل الشرف، همه الوحيد هو جمع المال و التلذذ بإذلال العمال عنده، غلاء المعيشة و ندرة مناصب العمل، جعلت أفحل الرجال يطأطئون رؤوسهم من أجل لقمة يدسونها في أفواه أطفالهم و ذويهم، أمّا الرجل الثاني، فهو سكرتيره الخاص أو كما أطلق عليه منصور لقب الطاروس.
الرجل الثاني، كان بمثابة كلب الصيد الذي دائما يسبق سيده، فيجس نبض الفريسة، قبل أن يهز ذيله كإشارة خضراء.
ارتكز منصور على كفيه رافعا آليتيه إلى الأعلى، ثم سحب نفسه إلى الخلف ليتكئ على الحائط خلـفه، أسندته زوجته على الوسادة، و عدّلت قليلا من تسريحة شعره و هندامه بطريقة شقية قبل أن تأذن للزائرين بالدخول، دخل السكرتير كعادته يسبق مديره بخطوتين، مصطنعا قناع الشفقة على وجهه، صادحا بصوته كضفدع مسموم : ألف لا بأس عليك يا منصور، ألف لا بأس عليك يا صديقي، ثم تبعه المدير و هو يتنحنح واضعا يسراه في جيب سرواله، و يحمل بيمناه مفاتيح سيارته الفخمة، جلسا وساد الصمت برهة و منصور يطالع ملامحهما، يستنطق تعابير وجهيهما السمجين، فأسرّ في قلبه : أخ منكما أيها المنافقان، الآن فقط تذكرتموني؟ أين كنتما من ذي قبل أم أن بلاغ المحكمة قد وصل إليكما ؟
ثم أطلق الطاروس نعيقه من جديد : صدقني يا منصور، ما إن عاد السيد المدير من السفر و أخبرته بالحادثة التي وقعت بالشركة، حتى سارع إليك و هو متأثر بإصابتك.
هزّ منصور رأسه مبتسما، و قد ابتلع حضورهما المنمق على مضض و لكنهما ضيفاه، و إكرام الضيف واجب لا بد منه، و ما هي إلاّ لحظات حتى دخلت زوجته تحمل بيديها سنية الشاي، وضعتها أمام الضيفين و همت بسكب الشاي، ساد الصمت من جديد و هم يتابعون حركاتها الهادئة بين علبة السكر و الأكواب، كانت يداها كالمرمر الأصيل، و أصابعها الدقيقة تتحرك و كأنها تعزف سنمفونية الرمق الأخير، دغدغ هذا المنظر قلب السيد المدير، فشجع نفسه المريضة للذهاب إلى أعلى من ذلك، فرفع عيناه الجائعتان إتجاه وجهها، فرآها كالبدر المكتمل، سواد الأهداب و الحواجب كشفا عن سر شعرها الليلي المخبئ تحت الخمار. بعد أن أنهت حسن الضيافة خرجت تجر خلفها نظراته اللئيمة و أنفاسه الكريهة، انتبه الطاروس إلى ما اشتهت عينا سيده، فحبك الحبكة بلؤم و هو يرفع حاجبيه.
ما إن فرغا الضيفين الثقيلين من ارتشاف الشاي حتى بادرا بالمغادرة، و هنا التفت الطاروس ناحية منصور مخاطبا : أخي منصور، نعلم أنّ حالك هذه قد أقعدتك بدون عمل، و كما تعلم ليس بمقدورك متابعة العمل و أنت بهذه الحال، و لكن نرى من واجبنا أن نقدم لك مبلغا شهريا إلى أن تتحسن حالك، و إن كنت مهتما فهناك وظيفة شاغرة لعاملة تنظيف، فقط ... أقصد... إن كانت زوجتك ...... ترغب بالعمل.
فرد عليه منصور مبتسما: هل تعرض وظيفة على زوجتي ؟
فرد الطاروس : مؤقتا إلى إن تتحسن حالك، و تعود إلى العمل، كما أن الشركة ....
قاطعه منصور بذات الإبتسامة : لا تشرح ... لقد فهمتك
الطاروس : لا تقلق يا منصور، فلن نسمح لها بتنظيف سوى مكتب المدير و قاعة الإجتماعات.
هزّ منصور رأسه و هو مركزا عيناه على وجه المدير السمج، و قبل أن يهما بالمغادرة، استوقف منصور المدير مخاطبا : عفوا سيدي المدير، لديا نصيحة لك
فالتفت المدير ناحيته مستغربا: نصيحة !!؟
منصور : آن الأوان لتحضر طاروسا جديدا
لم يفهم المدير ذلك التلميح و قبل أن يسأله مستفسرا أعقب منصور : فطاروسك القديم قد فقد حاسة الشم، لم يعد يفرق بين الروائح النتنة و روائح النقاء و العفة.
أي طاروس و أي روائح ؟ لا بد أن الحادث قد أثر على عقله أيضا، كلمات تمتم بها المدير و أفل خارجا، أماّ السكرتير فبقي مكانه متسمرا، جاحظ العينين، يحاول فك شيفرة هذه النصيحة، حتى فاجأه منصور من جديد : أيها السكرتير، اتبع سيدك قبل أن تفقد أثره.
...................انتهى