تقدم بضع خُطوات و هو يحس بالرطوبة، ثم أخذ يتفقد في الأغراض القديمة و القطِع الأثرية النادرة بيديه، إلى أن وقع نظرهُ على صندوقٍ خشبي كبير مزين بالنقوش و الزخارف الجميلة، إقتربَ منه بفضول و عندما مسَح الغبار من على غطاءه، و جد مكتوباً عليه بخط عربي قديم :
هُنا ترقد بسلام مرآة الصراحة، بعد أن إسْتغنى عنها كل بني البشر، و أجمعوا على وأدها حيةً في هذا التابوت.
و مَا إن أنهى قرائتها حتى إبتسم إبتسامَة سخريٍة، كأنه قد سمع مزحةً سمجةً، و مع ذلك تحركت أنامله الفضولية بِلا وعي منه، و ما إن فتح الصُّندوق حتى وقع نظره على مرآة كريستالية شديدةُ الصفاء، مكتوب على إطارها الذهبي البراق كلمات و عبارات من قبيل :
الأزرق : كآبة و يأس و عزلة..
الأسود : هواجس و هم و غم..
الأحمر : ألم و عذاب و إنتقام..
الأصفر : ذبول و علة و إحتضار..
الأبيض : طهر و صفاء و نقاء..
الأخضر : إستمرار و نماء و بقاء..
حمل المرآة بعد ذلك بين يديه، ثم أطفأ أنوار القبو و صَعد درجات سلمه.
و عِندما وضعها على سريره في داخل غرفته ليرى إنعكاس صورته عليها، فوجأ بأن المرآة لا تعكس لا صورته و لا حتى صورة محيطه، فإبتسم و هو يقول مع نفسه مستهزئاً منها :
ربما لهذا السبب تبرأت منك البشرية قاطبةً.
فجأةً ظهر في وسط المرآة قلب ينبض بالحياة، فإرتعدت فرائصهُ و أصيب الإرتباك، في حين كانت عيونهُ الجاحظة تتابع بذهول و قلق ما يجري أمامه، ثم رويداً رويداً بدأت تتفرع عن هذا القلب شرايين بألوان مختلفة، عندها تذكر العِبارات و الكلمات المنقوشة على إطار المرآة، فإقترب منها وبدأ يعيد قرائتها و هو يتتبع في مسَار كل شريان و لونه، حتى أتمت الشرايين إمتدادتها و شكلت في الأخِير هيئة إنسان بدأ يكسو عظامه العضلات و اللحم.
عندها بدأ نبض قلبهِ في التسارع، ففك أزرار قميصه بعد أن أحس بالإختناق، و عندما حاول مسح عرق جَبينه ظهرت ملامحه على المرآة، فتراجع للخلفِ و كاد أن يقع على الأرض من على سريره، فلم يكن قادراً على تصديق ما يرى أو حتى إستيعابه، فلقد كانت المرآة تعكس صورة ثابتةً له، و لكن الأكثر غرابة أن جلده كان شفافاً و تظهر من تحته مجموعة كبيرة من الشرايين السوداء و الحمراء و الزرقاء.. و هي تضخ ألوانها في قلبه و رئتيه و في كُل أعضاء جسده، و بعد أن تمالك نفسه إقترب منها أكثر ثم أخذ يبحثُ بعينٍ فاحصة عن الشريان الأبيض بين هذا الزخم من الألوان، إلى أن عثر في هامش بحثه على شريان أخضر رفيع.
عندها سمع طرقاً على الباب، فحمل غطاء سريره و أخفى به المرآة، و عندما فتح الباب وجد صديقه المقرب نبيل واقفاً أمامه، فسحبه من يده بسرعةٍ و هو يرد عليه التحية، و عندما أدخله غرفته قصَّ عليه بحماس كل ما جرى معه، من دون أن يخبره بِطبيعة ألوان الشرايين التي ظهرت في صورته على المرآة، و عندما إنتهى من حديثه قال له نبيل ممازحاً :
يبدو يا صديقي العزيز أن حزنك على وفاة جدك قد أثر على قدراتِك العقليه.
رمقه سعيد بنظراتٍ منكسرة ثم قال بنبرة حزينة :
ربما لازلت لحد الساعة حزيناً على وفاة جدي، و لكِن هذا لا يعني بالضرورة أني أهلوس أو مجنون..
فقال له نبيل بإبتسامة عريضة :
هوِّن عليك يا أخي فلم أمازحك إلا بقصد إخراجك من جو حزنك..
ثم تابع مبتسماً :
ثم أين هي هاته المرآة السِّحرية، فأنا أريد أن أرى صُورتي عليها ؟!
رفع سعيد أصبعه ببطأ و هو يشيرُ إلى مكانها أسفل الغطاء :
إنها هناك.. يمكنك تجريبها إن أحببتْ، و لكن ليس هنا بل في منزلكم،
فعلى أي حال يمكن لك أن تأخذها معك عند إنصرافك كهديةٍ مني لك،
و إن لم تفِي بالغرض الذي أخبرتك به..
فوظفها كمرآةً عادية تتذكرني بها عندما ترى وجهك عليها.
فقال نبيل مبتسماً :
شوقتني يا أخي، سَآخذها معي فلم أعد أطق صبراً على رؤية صورتي عليها، و إنتظر مُكالمتي الهاتفية في هذا المساء.
و في الليلة الموالية إتصل نبيل في ساعةٍ جد متأخرة، و عندما حمل سعيد السَّماعة، إعتذر منه بعد إلقاء التحية قائلاً :
آسف على عدم الإتصال بك في الأمس، فلم يغمض لي جفن لحد السَّاعة يا أخي، فلقد رأيت صورةً لي ما رغبتُ قط في رؤيتها..
ظل سعيد يصغي له بصمتٍ ثم قال له بتلعثم :
و مَا رأيك ؟!
فقال نبيل بعد ترددٍ :
حقيقةً لا أعرف فهذا أقرب للسحر و الخيال..
ثم قال له سعيد :
طيب، و ماذا ستفعلُ بها ؟!
فقال له نبيل بأسَى :
أرْجو أن تعذرني يا أخي، فلم أستطِع أن أتحمل وجودها في منزلي، لذلك فلقد أهديتها لإبن عمِّي المغترب الذي زارنا بالأمس..
فأجابه سعيد بنبرة سَعيدة :
لا داعي للإعتذار، فعلى أي حال فلم تعد مُلكي بعد أن أهديتها لك، و لكِن هل أخبرته بحقيقتها ؟!
فقال نبيل :
نعم، و لكنه لم يأخذ كَلامي على محمل الجد.
مرَّت على هاته المكالمة الهاتفية التي نسيها سعيد خمسون سنةً، كَما نسي مرآة الصراحة في غمرة مشغولياته و مسؤوليه، فلقد تزوج خِلالها ثم أصبح جداً بعد أنجب لهُ أولاده البنين و البنات، و في اليوم الذي كَانت تحتفل فيه عائلته الكبيرة بعيد ميلاده، تقدم أحد أحفاده وسَط الحضور ثم قدم له هديةً ملفوفة في ورق الهدايا، و عندما فتحها سعيد بهُت وجهه و جحظت عيناه من محجريها في الحَال، ثم توقفت أنامله عن الحركة، و بعد برهةٍ أعاد لف الهدية في ورقها، ثم إبتسم و طبع قبلةً على جبين حفيده، و هو يقول مع نفسه بخصوصِ الهدية :
لابد أنك قد أكملتِ طوافك حول العالم،
بعد أن طرقتِ كل الأبواب بحثاً عمن يتقبلك كما أنت،
ثم عُدت إلي بعد كل هذا الزمان، تجرين أذيال الخيبة وراءك..
نعم، يبدو فعلاً أنك عبأ يثقل على كاهل البشرية.
لاحقاً إنتهز فرصة إنشغال الجميع بتقطيع الحلوى بعد أن أطفأ شموعها، ثم تسلل إلى غرفته و أخرج مرآة الصَّراحة من لفافتها الورقية، و حين هم برؤية إنعكاس صورته الداخليه عليها بعد مرور كُل هذا الوقت، أصيب بالإرتباك فقام بسرعةٍ على قدميه و أخذ يلفها في ورقها، ثم حملها تحتَ إبطه و نزل خفية إلى القبو، و عندما وقف أمام صندوقها الخشبي، فتحه ثم وضَعها فيه بكل رفقٍ، و هو يقول مع نفسِه :