( أَزمة ثِقة )
رَن جرس الباب على الساعة الواحدة و النِّصف من منتصف النهار، ففتحتْ الباب له بسرعة و هي تبتسم في وجهه بتكلفٍ ظاهر، رمقها بنظراتٍ من التوجس ثم ألقى عليها السلام و دخل مطأطأً رأسه بعد نصف يوم من العمل الشاق، فردت عليه التحية بالمثل، ثم أقفلت باب المنزل و توجهت مباشرةً إلى المطبخ و هي تجرُّ خطواتها خلفه ببطأ..
و بينما كَانت تغرف من القدر الطعام لتضعه في الإِناء، شردت ببالها إلى صُورة تلك المرأة الجميلة التي وجدتها في محفظته، فبدأت تضرب أخماساً بأسداس، و هي تحاول عبثاً أن تجد إجابة مقنعة تشفي غلِيلها، فمازادها التفكِير في ذلك إلا شكاً و حيرة.
في هاته الأثناء إنتزعها صوته المُستاء من تأخرها من بين تساؤلاتها و وسَاوسها، فحملت الإناء بين يديها و تقدمت به نحو البَهو، و حين وضعته على المائِدة جلست في الجِهة البعيدة منه، فقال لها متذمراً :
ماذا دهاك اليَوم ؟!
أعادت تصنُّع نفس الإبتسامة الصَّفراء ثم قالت :
كَالعادة لا شيء مهم، فلا تشغل بالك.
فتابع متسائلاً و هو ينظر إليها بإستغراب :
و هل رأيت محْفظتي ؟! فلقد نسَيت أخذها معي في الصباح عندما إستيقظت متأخراً.
حينها تغيرت ملامِح وجهها، ثم قالت بِتلعثم :
لا أدري فليس من عادتك نسيانها أصلاً، إبحث عنها في درج مكتبك فربما تجدها هناك.
وقف على قدميه ثم قصَد غرفة مكتبه فوجد المحفظة فوق سطحه، أخذها بين يديه و عندما فتحها صَاح بأعلى صوته مناديا على زوجته بإسمها، سمعت هذه الأخيرة نِداءه و مع ذلك ظلت ساكنةً في مكانها و هي تَتأففُ من صراخه الحاد، فأسرع بخطواته إليها ثم خاطبها و هو يستشيط غضباً :
ألآ تسمعين صراخي الآن أيضاً ؟!
ثم رَمى بالمحفظة فوق الطاولة، و تابع بنبرة أكثر إحتقاناً :
أين الصُّورة ؟!
أبعدت بلا مُبالاة شعرها عن وجهها، ثم رفعت عينيها صوبه و هي تقول بإِستفزاز :
عفواً، عن أي صورة تتحدث ؟!
سكَت لبرهة عن الكلام و هو يحاول ضبط نفسه، ثم قال بِتوتر :
الصورة التي كانت في داخِل محفظتي.. ألم تريها مُصادفة ؟!
و عندما أنهى كَلامه، قالت و هي تتظاهر بالسذاجة :
ياه.. الآن تذكَّرت،
أتقصد صُورة تلك المرأة الجميلة التي تقارب في سنها الخمسِينيات ؟!
و لماذا تسْأل عنها ؟! و هل هي تهمُّك لهاته الدرجة ؟!
فقال لها بنبرة كُلها إمتعاض :
نعم هِي بالذات، و يبدو أنك قد تساءلت عن هوية صَاحبتها ؟!
فقالت بإسْتخفاف :
طبعاً، إن لم يكن في هذا أدنى حرج لك.
فقال بتحسُّر بعد أن نبس بالآه :
طبعاً لا، و لكن كل ما يُضايقني أنك قط لم تبدي أدنى إهتمام نحو أي شيء يتعلق بماضيَ البعيد..
فتلك هي صورة والدتي المتوفية و التي لطالما حدثتكِ عنها، و لكنك للأسف لم تحاولي في يوم حتى أن تسْأليني عن تاريخ وفاتها، و لا حتى عن المقبرة التي دُفنت فيها، فما بالك بصُورتها ؟!
صُعقت لهول ما سمعت، فكَأنها قد رأت في كلام زوجها مرآة تعكس صورةً بشعة لها، ثم أجْهشت بالبكاء و هي تفكر في أول لقاء بينهما، و السُّرعة الكبيرة التي تم بها عقد قرانهما، فيبدو أن سَعادتها العارمة بشريك عمرها قد أنستها في كل التفاصيل الأخرى، و حين كَففت دمعها وقفت و أمسكت بيده و هي تحاول إستسماحه..
حِينها صدها بقوة و قال لها :
طيب، و مَادمت قد فتحت هذا الباب، فلي عندك سؤال لطالما كان يُؤرقني و يقض مضجعي، و أظنك كنت تلاحظين سَهري لساعات متأخرة في الأيام المنصرمة، و كُنت ما من مرة تسألينني عن سبب ذلك..
و حين همَّت بالكلام قاطعها و تَابع في غضب شديد :
لمن هي صورة الشاب الوسِيم التي عليها شريط أسود، و التي تحتفظين بها في عُلبة مجوهراتك ؟!
أهي لحبيب سَابق من الماضي لم أحظى بشرف وضع إكليل من الزهور على قبره لحد الساعة ؟!
و أكمل مستهزئاً :
فلقد إحتسبت كَتمي لغيظي طيلة كل هذا الوقت، كَساعات صمت تضامناً مني على حدادك عليه..
سَقطت على ركتبتيها و هي لا تصدق ما يجري حولها، ثم قالت و هي تُتمتم بعد أن توقفت الكلمات في حلقها :
هي صورة أبي رحمه الله عندما كان شاباً.
بقلمِي...