( أطلالُ الماضِي )
جَلس بإسترخاء على مقعده تحت الشمسية في الموقع الأثري ساعة الظهيرة، ليلتقط أنفاسَه و العرق يتصبب من جبينه، ثم حمل بيده المتسِّخة بالتراب قنينة المياه من جنب المذياع، و شرب منها بلهفة ليروي ضَمأه، من دون أن يهتم للغبار الذي يعلو تقاسِيم وجهه المنهكة، فبالرغم من كونه مشرفاً عاماً على البعثة الأثرية للتنقيب عن آثار جنة عدن في صَحراء الربع الخالي، إلا أنه كَان لا يتوانى عن إعطاء التعليمات و الإرشادات لفريق العُلماء العامِل تحت إمرته و إسداء النصح لهم، أو حتى في مسَاعدة العمال البسطاء في عملية نقل الأتربة بعيداً عن موقع التنقيب.
فقد كَان شديد الشغف بعلم الآثار و دراسة تاريخ الشعوب القديمة، فلطالما أسرتهُ الحضارات التي تعاقبت على هذه الأرض بأطلالها و آثارها، و سَحرته بأساطيرها و ملاحمها و فنونها و ثقافاتها، فكان يجد متعةً كبيرة في القيام بعمله، حتى أنه كثيراً ما كان يبقى وحيداً في الموقع بعد إنصراف الجمِيع، ليمضي السَّاعات في تفحص القطع الأثرية بدقة شديده، و لقد مكنه كل هذا من إعتلاء مَنصب مدير مصلحة الآثار في مدة وجيزة، و مع ذلك كَان يشرف بنفسه على كل البعثات، و لا تمر أي قطعة أثرية إلى خزانة المتاحِف إلا بعد دراسته لها و تحليلها و تأريخها، كما كَان كثير المشاركات في الندوات الإقليمية و العالمية، و ذو شهرة واسعة على الصَّعيدين الإقليمي و العالمي، بفضل كشفه النقاب عن آثار قارة أطلانطِيس المفقودة.
و حِين أعاد القنِّينة إلى موضعها بقرب المذياع، حمل بين يديه إحْدى القطع الفنية الأثرية و هو يتمعن فيها لتوثيقها. عندها أوقفت المحطة الإذاعية بثها فجأة لتذيع نبأً عاجلاً، مفاده أن زلزالاً عنيفا قد ضرب العاصمة بقوة تسعة درجات على سلم ريختر، و خسَف بكل مبانيها و محى معالمها من الخريطة.
سَقطت القطعة الفنية من بين يديه على الأرض و إنشطرت إلى شظايا فُسيفساء صغيرة، و مع ذلك ظل ساكناً في مكانه من دون أن يتحرك من مكانه، فقد تصلبت عُيونه في محجريها، و تجمد الدم في شرايين قلبه و توقف لبرهةٍ عن النبض، و هو فاغرٌ فاهه عن آخره.
و بعد أن عاد إليه إحسَاسه المادي بالعالم الخارجي، قام من مَقعده ثم أخذ في ركل القطع الأثرية بقدمه و تكسيرها، و هو يصيح بأعلى صوته بعد أن دخل في نوبة جُنون هستيرية :
لا يمكِن أن يحدث هذا !!!... لا يمكن !!!.. لا يمكن !!!.
في هاته الأثناء كَان كل العاملين في الموقع ينظرون إليه بإستغراب و دهشة، فلم يسبق لهم في يوم من الأيام أن رأوهُ بهاته الحالة، أما هو فقد توجه ركضاً نحو سيارته، و بسرعة أدار المحرَّك و داس على المكابح و إنطلق بسرعة جنونية مخلفاً فوضى عارمة في وسط الموقع، ثم سلك الطرِيق الرئيسية المؤدية إلى العاصمة، و بينما كَان يمسك بالمقود بين يديه بكل قوَّته، كانت دموعه الغزيرة تغسِل وجهه من آثار الغبار، و تتساقط كزخات من المطر على قمِيصه، فكلما كان يتذكر فرداً من أفراد أسرته الصغيرة إلا و يزيد ضغطاً على المكابح، فلم يعد يشغله الآن سوى الإطمئنان على أحوال زوجته الطيِّبة و صغيريه، و هو يتذكر بمرارة إعتذاره بالأمس عن حضور إحتفال إبنته الصغرى بعيد ميلادها السابع، و ذلك بسبب تحججه بإنشغاله الدائم بعمله، و لا كيف أقفل المكالمة الهاتفية في وجه زوجته، بعد إخفاقه في إقناعها بجدية بحثه عن آثار جنة عدن بين كُثبان الرمال، و التي كانت تلح عليه للحضور نزولاً عند طلب فلذتي كبديهما، و إبدائها في الأخِير إمتعاضِها من عناده و تنقيبه المستمر في أطلال الماضي، و من إهماله لأسرته في الوقت الحاضِر.
قطع المسَافة الطويلة الفاصلة بين الموقع الأثري و العاصِمة في ثلاث ساعات، و عندما وصل بسيارته عند لافتة الترحيب التي تستقبل زوار العاصِمة عند مدخلها، كان كل ما بعدها عبارة أنقاض سَوتها الهزة الأرضية العنيفة بالتراب، بحيث طمست كل معالم المبَاني و الشوارع و الحدائِق التي كانت تحيل على وجود مدينة زاخِرة بالحياة و محتها من الخريطة، في حين كَانت ألسنة اللهب تأتي على ما تبقى منها، و أصوات سَّيارت الإسعاف و المطافئ و الشرطة تتعالى في المكان..
نزل من سَيارته ثم تقدم بضع خطوات، ثم سقط جاثما على رُكبتيه وسط الأنقاض، و هو لا يصدِّق ما يراه بأم عينه.
و بعد مرور سَبعة أيام، أعلنت البِلاد حالة الحداد أسبوعاً على ضحايا الهزة الأرضية التي لم ينجو منها أحد..
أما هو، فكَان الوحيد الذي لازال يبحث بين الأنقاض بيديه عن بقية أهله، على الرغم من مرور سَنتين على هاته الكارثة المفجعة التي إهتزت لهولها البِلاد.
بقلمِي... 