خطوات بلا حسبان
« عندما يسقط الثور تكثر السكاكين » هكذا كانت تقول أمي و هي تمشط شعري و تحدث جارتنا،كنت صغيرة حينها و كانت هاته العبارة و مثيلاتها تعد بالنسبة لي ألغازا صعبة الفهم.
لا ادري لما كانت هاته العبارة هي أول ما خطر ببالي و أنا أتصفح الجريدة هذا اليوم و أقرأ ذلك الخبر في صفحة الحوادث ، و أسمع من حولي ألاف الكلمات و ألاف التعليقات.
مر يومان على وفاتها و هاهي الألسن التي كانت تنهش في لحمها و هي حية تفعل الشيء نفسه و هي ميتة.
إنها مهنة النميمة التي ابتدعها جيل اليوم !
كتب بالخط العريض ” : تنجو من حادث سيارة ليقتلها والدها “
عقدت الدهشة لساني ، لم أعرف ما أقوله ...
ماتت في ربيع العمر....
لم تكن تربطني بها علاقة صداقة و لكني كنت أعرفها بحكم اننا درسنا معا في نفس الثانوية و دخلنا الجامعة في نفس السنة .
تنحدر من عائلة بسيطة والدها سائق أجرة و أمها ماكثة بالبيت و لم يكن لديها من الإخوة سوى فتاة تصغرها بعامين و في مرحلة الثانوية كانت مثال الفتاة الجدية و المثابرة في دراستها و كثيرا ما أثارت انتباهي بثقتها و أخلاقها العالية.
كان اسمها سامية و في الجامعة سمعتهم ينادونها ليلى، كان أول ما غيرته إذن اسمها !
لا أدري كيف يتغير البشر بين يوم و آخر بل بين ساعة و أخرى يذكرني هذا بقول صديقتي "الإنسان وليد اللحظة" فأي لحظة مشؤومة تلك التي حولت سامية الهادئة إلى ليلى الطائشة التي لا تعترف بالحدود الحمراء ، تغيرت تصرفاتها و حتى طريقتها في الكلام أصبح فيها شيء من التكلف ، و عن ملابسها يطول الحديث ، فقد أصبحت من الفتيات اللواتي يركضن خلف الموضة ركضا.
أي موضة هذه التي تجردنا من ثلاث أرباع ملابسنا و تجعلنا نعرض أجسادنا على الملأ بالمجان ؟
أي موضة هذه التي تجعلنا نصبغ وجوهنا بالألوان و المساحيق حتى لا نكاد نعرف أنفسنا في المرآة ؟
كنت أقول لنفسي هذا الكلام كلما مرت بقربي تلك الفتاة التي عرفتها يوما في جسم و هيئة أخرى ثم أمضي و أنا أردد تبا لها من موضة !
و عرفت سامية أنها لتبرز أكثر، لتصبح محط أنظار الجميع لابد لها من صديق تتفاخر به أمام الجميع و كان لها ما أرادت.
كان ينتظرها عند باب الجامعة و يذهبان معا في نزهات لا تنتهي، لا أستطيع أن أعرف إذا كان يحبها حقا و لكني في عيون سامية التي كانت دوما مرآة لقلبها عرفت أنها أحبته.
قبل ثلاث أيام دعاها لحضور حفلة لمطرب مشهور جاء من وراء البحر ليلهب الجمهور العاصمي و رغم أن العاصمة بعيدة و ذهابها يحتاج لحجة دامغة فقد استطاعت سامية تدبير الأمر.
هي المرأة إذا أرادت تستطيع!
ذهبا معا كعاشقين ، حضرا الحفلة و استمتعا ثم قاما بجولة في العاصمة و للأسف كانا مخمورين و هكذا اصدما بسيارة كانت مقبلة نحوهما و على الفور نقلا إلى المستشفى.لم تكن إصابة سامية بالخطيرة و لكن إصابة عائلتها كانت أخطر.
كيف لا و هم يتصلون بوالدها في ثلث الليل الأخير ليخبروه بان ابنته ترقد في المستشفى هو الذي ظنها نائمة عند صديقتها لأجراء مراجعة عامة قبل الامتحانات و أمها ما عساها تفعل و هي تسمع هذا الكلام و ترفض التصديق !
هي سامية التي كانا يتفاخران بها أمام الجميع ، بشهاداتها المعلقة على جدار غرفتها ، بالجوائز التي نالتها و المديح الذي لطالما حظيت به من طرف الجميع هي نفسها سامية التي وضعت رأس والدها في التراب و حرمت والدتها من فرصتها الوحيدة في التباهي ..هاته الأم التي لم يسعفها الحظ لتدخل الجامعة فرات في ابنتها كل أحلامها.
لم يحتمل والدها الخبر..لم يستطع أن يعيش مع الفضيحة..
سكرانة كانت ابنته...
مع شاب غريب...
في العاصمة...
كل كلمة خنجر يطعن في كرامته و كبريائه..ذهب إلى المستشفى رآها نائمة بفعل التخدير، و حين خرج الجميع و انفرد بها خنقها بقسوة لم أعرفها فيه من قبل أنا التي كنت أحييه كل صباح و يقابلني بابتسامة تنم عن طيبة لا حدود لها ، خنقها و هو يردد « لم تعودي ابنتي » و استمر يردد هاته العبارة -حسب ما كتب هنا- حتى لفظت ابنته أنفاسها الأخيرة و حتى بعد أن اقتيد إلى السجن.
هاهي الجريدة أمامي و هاهي صورة سامية و والدها الحاج موسى لا تفارقني و هاهي التعليقات تتوالى ممن يجلسون هنا في كافيتريا الجامعة ، أجل يا أمي حين يسقط الثور تكثر السكاكين و لكن الثور قد يسقط رغما عنه فكيف سقطت سامية يا ترى ؟هل الحب كان السبب أم تراها الحرية التي لم تعرف كيف تستغلها أم أن هناك شيئا آخر لا تعرفه إلا سامية !
أنا لا أحاول أن أجد لها أي مبررات فهي لم تكن طفلة، كانت فتاة راشدة مثقفة و من عائلة محترمة فكيف انساقت وراء الشهوات ؟ كيف أغراها حفل لفنان لا يعود للجزائر إلا ليملأ جيوبه كلما حل الصيف!كيف أعماها الحب ؟ بل أيحبنا حقا أولئك الذين يأخذوننا في جولات ليلية و يقدمون لنا وردة بجانب زجاجة خمر لا أدري...حقيقة لا أدري !
هاته الحادثة حركت في حنيني للبراءة التي تميزنا بها يوما ، للطيبة التي رأيناها في أمهاتنا ، لتلك البساطة التي لا تجدها اليوم بساطة الملبس و المأكل و الحديث ، للمة الجيران في المناسبات و الأعياد ، لكل شيء له علاقة بوطن لطالما عشقته وطن اسمه "الجزائر" أصبحت اليوم و أنا أسير في شوارعه أشعر بالغربة.
ما أصعب أن تشعر بالغربة في وطنك و بين ناسك !
أن تشعر و أنت في القرن الواحد و العشرين أنك تنتمي لزمن آخر بل و تتمنى لو أنك عشت في زمن آخر لا تكلف فيه و لا أقنعة و لا انسياق وراء الشهوات و لا حفلات صاخبة و أغان ماجنة معظم كلماتها تنخر في أساس ديننا كالسوسة و نحن نرقص على أنغامها كالأغبياء !
زمن آخر حيث لا يصدر لنا الغرب ملابسهم فنفرح بها و نرتديها و نحن نخلع عنا الحشمة و الحياء !
ومازلت للان اتسائل كيف نسينا يا ترى أننا نعيش في مجتمع عربي مسلم !
كيف تغيرنا و تغيرت طباعنا و ملابسنا و أصبح جل كلامنا باللغة الفرنسية !
أسير أحيانا وحيدة على الكورنيش الوهراني و أنا أفكر أحقا أنا في مدينة عربية !
و أنا في الجامعة يحدث أن أسمع حديث الجامعيين و صراحة أقول نصفه تخجل منه الآذان و نصفه الآخر مجرد ترهات ، أنا لا أتهم الجميع و لكن نادرا ما أجد الموضوع ذا قيمة لذا أصبحت أتجنب البقاء في الجامعة كي لا أصدم أكثر لأنك تراهم فتعجبك أشكالهم و ملابسهم و لكن عقولهم عقول عصافير!
صدق القائل " ندخل الجامعة جهلة و نخرج منها مغرورين " اللهم إلا ما رحم ربي !
لم املك في النهاية سوى أن أقول اللهم ارحم سامية و ارحمنا و أهدنا نحن أيضا قبل فوات الأوان.
آمين