توفيّ الرجل الكبير ، حدثَ ذلك كله بسرعة . لُفّ الجثمان بالكفن ثم سُجيّ إلى الحفرة و انهال فوقه الرفش بالتراب . التمّ حوله الأقارب و الأصدقاء و أناسٌ آخرين يعرفهم المرحوم . احنى الرجال رؤوسهم قابضيّن على أكفهّم بين أفخاذهم ، متسمّرين . بينما مسحتْ النساء المتوشحات بالسواد بأكفهّن دمعاً طفر في أحداقهن ، محتضنات ابنة الميّت الوحيدة مواسيات ٍ إياها بالطبطبة على الكتف و ذكر محاسن الميت . و للحقيقة ، احترنّ فيما يفعلنّ ؟ ، فلم يكن للمرحوم حسنات تُذكر . و فكّرتْ إحداهن في إمكانيّة زوال الكُحل الذائب على القفازات أثناء الغسيل . حتى الرجال أنفسهم التزموا الصمتْ و تبادلوا النظرات كثيراً قبل انصرافهم لتمتمة تحرّكتْ لها الشفاه و ما زادوا عن ذلك إلا بشرب قهوة العزاء .
و حدثَ أن دنت طفلة صغيرة ، كان في يدها باقة من الزهور ، أرادتْ أن تضعها فوق رخامة القبر . إلا أن أمها شدّتها من يدها في آخر لحظة ، فما عسى أن يجمعهم بالراحل غير المصلحة و الضرورة ، و كل ذلك انقضى الآن ؟ . كان رجلاً اشتهِرَ في صالونات الأغنياء كوجه ٍ مرموق ذا وزن يُحسب له ألف حساب . أما و قد هَلك ، فلا حاجة له بالزهور . رضوّا فيما سبق كظم غيظهم و تحاشي أي فعل من شأنه افساد العلاقة مع نديم بِك .
و لنديم بِك ثلاثة أبناء ، ولدان و بنت . تحلقوّا حول الفِراش أبيهم المريض و هم يتحرقوّن لقسمة الميراث . و في فم ِ كل واحد ٍ منهم سؤال ، و كلٌ منهم تساوره النيّة لأجل أن يكون أول المتكلميّن في الأمر . إلا أن حالة أبيهم سرعان ما ساءت ، و اضطروا أن يبعثوا له بممرضة خاصة تقف على شؤونه و تلبي له حاجاته . إلى أن جاء الوقت الذي عرفوا فيه أن أبيهم قد أودع بوصيّة عند محامي العائلة ، لا تُفضّ إلا بعد موته ، تبيّن ما رسى عليه فكره و استكانت إليه نفسه . أما الذي كانوا يشغفون لو يرثونه عن والدهم ، ليس المال و لا علاقة له به لا من قريب أو من بعيد . و إنما مهرّج عجوز ، كان خادماً فيما مضى و ارتضى بعد أن وعده نديم بك بتحسيّن ماهيته و ترقية شأنه ، أن يحضر الأمسيّات و يشاركهم السهرات . بما يطريّ جو الجلسة و يضفي عليها نوعاً من الضحك و خفّة الدم ، كأن يأخذ بتقليد صوت الحِمار أو المشي على أربع . و مرة ً اختيّرَ لأن يحاكي شخصيّة أحد الحاضرين و سرى بين جمهور الحاضرين على أثر ذلك ضحكات و قهقهات . و مرة ً دُفِعَ إليه بطفل ٍ صغير بال على نفسه لأجل أن يشّطف له و يغسّله . و مرة ً طُلبَ منه أن يرقص . و لذلك كان محطّ الأنظار طيلة السهرة ، فما كان من رجل ٍ غني قَدِمَ إلى الحفل ذات مرة إلا أن يطلب من نديم بِك التخليّ عن المهرّج لقاء مبلغ من المال ، إلا أن الرجل الكبير رفض طلبه مُفضِلاً استبقاء المهرّج في داره .
كان كل واحد ٍ من الأبناء الثلاثة يعتقد أن مثل هذا الأمر لا يستدعي ذاك الإلحاح ، فلا شك أن الأخوين الآخرين ما كان يخطر لهما في بال أمر المهرّج البالي ، و هما لذلك لن يمانعا ترك المهرج دون حصّتهما من الميراث . و ما حدث بعد ذلك وفّرَ على الأشقاء خوض الإختلاف و التنازع ، إذْ مات الخادم المسِّن و عفى عنه القدر تبعات الميراث و التداول .
لم يمض ِ على موت نديم بِك الوقت الطويل حتى بَدتْ علامات مرض ٍ شديد على قسمّات المهرّج العجوز ، الذي كان نحيلاً في الأصل ، و في مشيّته عرجٌ خفيف . و إذْ كان لا يقوى على أداء مهام الخادم الشاقة المتواصلة . فقد أوصى له نديم بِك بوظيفة المهرِّج ، و هو الرجل الملّال بطبعه الذي يسأمُ من ثيابه .
و ظلّ المهرّج العجوز يصارع المرض متقلّباً فوق فراشه وحيداً إلا من خادم ٍ صغير ، و للصدق ، هو حفيده البالغ من العُمر إحدى عشر سنة . بكى عندما لفظَ جدّهُ آخر أنفاسه و همدتْ الكحّة في صدره إلى الأبد .
و لقد تمَّ دفن المهرِّج العجوز في مقبرة حقيرة قديمة ، و هي فوق ذلك عشوائيّة لا تُميّزُ فيه طوبة من طوبة ، تقع خارج مزرعة نديم بِك .
و سرعان ما نُسيَّ ذكره و قلّ التطرّق إلى سيرته ، سوى أن الحفيد الصغير كان يختلس الفرص ليزورَ قبره ، ذارفاً عليه الدمع ، مودِعاً القبر وردة ً كان جدّهُ يحبُ شمّها أثناء تجواله في ثنايا الحديقة .
ما نمحّتْ قط قسمات الجد المسكين من مخيلة الصبي . كان ينظرُ إليه من وراء زجاج النافذة ، و هو منكمشٌ كالعصفور أسفل ثريّات البلور . يبانُ من خلال الأنوار المشعشعة و البراّقة ، و هو محاط بالساخرين و المتندريّن الهازئيّن . يرمقه من بعيد بعينين ملؤهما الحزن و الأسى ، فقد كان الجدّ أحياناً يُضرب و يهزّأ أشد التهزيء ، إلا أن الصبي التزم عدم الإقتراب مما قد يُسبب للجد الإحراج أو الإحساس بالذنب .
و كان من العجوز كلما خرج من القاعة و اتجه إلى غرفته اصطناعُ هيئة الجَد و الصرامة ، محاولاً قدر الإمكان أن لا يُشعِرَ حفيده بما حاق به من الإستهزاء و الإحتقار ، بل كان يُعلن للصبي أنه لم يتواجد هنالك إلا مكرّماً معززاً ، حباهُ نديم بِك بشرف قربه . و هو إن كان يُسمح له بالحديث ، فإنما لأنه ذاك الخاد القديم ، الذي بذل في سبيل الأسرة مجهودات ٍ جليلة و لأعوام ٍ مديدة .