لم يكن لا صوت هزيم الرعد، و لا وعيد وميض البرق لينتزعه من شروده التام، بَل ظل على وتيرته المملة في المشي ببطئ، داهساً في طريقه بحذائيه الأسودين أوراق السنديان المبللة بماء المطر، إلى أن وصل إلى بَاحة الحديقة الكبيرة، ثم توقف فجأة عن الحركَة ليرفع رأسه صوب الأرجوحة القديمة، و هو يتأمل في مقعدها الخشبي الذي يتأرجح من نفسِه بواسطة الرياح العاتية، تبسَّم إبتسامة طفيفة سرعان ما عاد و ووأدها بعبوس ملامح وجهه، فكَأنها بِشارة محرمة عليه أو خطيئة وجب التبري منها، ثم أكمل خطواته صَوب الأرجوحة و هو لا يقيم إعتباراً لا لعنصر الزمان، و لا للعاصفة التي تكَاد تذهب به معها في أية لحظة جموح لها، و عِندما وصل الأرجوحة جلس بلهفة على مقعدها، ثم أخذت قوة الريَاح على عاتقها التكلف بأرجحته وفق هواها، و بينما كَان جسده المعلق بين السماء و الأرض يترنح عبثاً في جميع الإتجاهات، كَانت روحه الحائرة تهيم إلى أبعد الحدود، و هي تقرأ بحياد مزيف ذكريات ماضِيه.
و بعد مُرور الساعات، هدأت العاصفة لتهدأ معها الرياح العاتية التي كَانت تتأرجح به، و بينما هو جالس على مقعد الأرجوحة كَأن على رأسه الطير، بدد شرود ذهنه طفلان صَغيران وقفا بين يديه، إبتسم أحدهما في وجهه، في حين خاطبه الآخر بصَوت يعتريه الكثير من الخَجل :
عَمي، هل ممكن أن تسمح لنا بالتأرجح بعد أن ينتهي دورك ؟!
و إن لم تجد من يدفع بك الأرجوحة فنحن مسْتعدان لذلك إلى أن تكتفي.
نَزع بهيبة عنه قبعته السوداء، ثم رفع رأسَه في إتجاه وجهيهما و رمقهما بنظرة سريعة، إستطاع من خِلالها أن يستشف شغف البراءة الفقيرة، و السَّاعات الطويلة التي أمضياها و هم ينتظران هدوء العاصفة، ليأتيا للحديقة و يتسَليا بالأرجوحة العُمومية. بَعد برهة قام على قدميه من دون أن يخاطبهما، بل إكتفى بنفس الإبتسامة الطفيفة السالفة الذكر و الموؤودة بين تقاسيم وجهه، ثم نفض بعفوية البَلل عن قبعته السوداء، فأصابت الصغيران بعض القطرات الطائشة التي سُرعان ما مسحاها عن وجهيهما، و الإبتسامة الخَجولة لا تفارق محياهما. ثم وضع قبعته فوق رأسه و ربت على كتف أحدهما، و وضَع يده على رأس الآخر، و أخذ يخطو الخطوات بينهما و هو يبتعد ببطأ.
بعد سَاعات من التجوال و صل إلى الكرسي الذهبي العتيق المحبب إلى قلبه، و الذي يقع مُباشرة تحت شجرة الصفصاف المعَمرة، جلس عليه و هو يلف يديه حول صدره بحثاً منه عن الدفء الداخلي، بعد أن إنقلب عليه البلل الذي أصاب ملابسَه، إلى قر يصيبه بدنه المنهوك بالإرتعاش مع هبوب أبسَط نسِيم، ظل على تلك الحَال لوقت طويل، إلى أن حنى رأسه من جديد بعد أن هدأ تماماً عن الحركة، ففي غمرة بحثه عن الدفء خارج جسَده إستشعره داخله، ثم تاه من جديد بين بنات أفكاره القديمة التي أنسته في الدنيا و ما عليها. إلى أن وقع على مسامعه صدى قهقهات قريبة مِنه، تعتريها نبرة عنفوان الشباب، حرك رأسه يميناً و يساراً قبل أن ينظر صوب مصدرها، ثم رفعه بتضايق فرأى من تحت قبعته شاباً و شابة قادمين صوب المقعد الذي يقابله، نظر إليهمَا بإمتعاض شديد، ثم قام بسُرعة و هو يضع يديه في جيبي معطفه، و مضى يجر أذيال الخَيبة و الإستياء خلفه.
و بينَما هو يخطو الخطوة تلو الخطوة، خافضاً رأسه الصغيرة الهائمة في عالمه الخاص الكبير، وقع نظره على كُرة للقدم ملطخة بالوحل، إبتسم إبتسَامة عريضة هاته المرة، ثم دحرجها بقدمه بمهارة إلى بقعة قريبة من المياه، و بعد أن غسلها أخذ يركلها بِكامل قوته، و هُو يجري خلفها بين بقع مياه المطر الممتزجة بالوحل و أوراق الشَّجر و صَفحات الجرائد، من دون أن يقيم إعتباراً لأي شيء يعترض طريقه. إلا أن الأكثر غرابة في الأمْر هذه المرة، أن إبتسامته العريضة ظلت ملازمة له، فلم تستطع تقاسِيم وجهه التكتم عليها.