التاسعة ليلا موعد كل ليلة, حملت أوراقها التي اختارتها من صفحات الجرائد وقلمها الرصاص الذي وجدته مهملا في إحدى الحقائب القديمة لتتوجه إلى الطابق العلوي , انه موعد الدرس..

بغيتها التقاط الكلمات من فجوة الباب واستراق السمع والنظر عدتها وأدواتها لجمع الحروف... هكذا حفظت فاطمة أبجديتها وهكذا تدربت على رسم الحروف فوق صفحات الجرائد التي كانت تنتقي الأنسب للكتابة عليها... هاجس ما كان يحرك تلك اليد الصغيرة التي لم تتعود بعد على إمساك القلم , فهكذا كانت تفعل في كل ليلة دون أن يشعر بخطاها احد لتتوجه بعدها إلى مرقدها وحيث تعمل فتبسط فراشها على الأرضية الباردة وتظل تلك النظرات تحدق في الفراغ, لتخترق لمعة عينيها الظلمة..وترسم أحلامها وتلونها بقوس قزح..

انه المطبخ , حيث تعلمت المشي , حيث رسمت  اثر خطواتها الأولى... هناك وفي ذلك المكان قضت سنواتها الستة قبل أن يخطف شبح الموت أمها التي ليس لها غيرها في هذا العالم ليبدأ مشوارها مع الوحدة قبل أوانه ولتستلم مقعد أمها ومكانها ففي المطبخ..!!

كان ذلك المكان يرحمها من عيشة آخر أقسى واشد, من التهميش بين حاويات القمامة في الشوارع.. هذه هي المنة التي منها عليها أفراد تلك الأسرة, فتعلمت تنظيم الطبق وتزيينه بالأصناف ليصلها الفتاة المتبقي من هنا وهناك فتجمعه وتأكله ثم ترفع كفيها لتردد ما علمتها والدتها " اللهم لك الحمد والشكر " وتكمل غسل الصحون لتجلس بعد ذلك واضعتا يديها تحت فخذيها لتجمع لهما الحرارة التي سلبها الصقيع وبرد الماء...!

حياة بائسة زاد من مرارتها قسوة القلوب من حولها فكانت ترى حنان الأم ينقسم على أبنائها وهي ترعاهم وتحضنهم ولا حضن لها !! كانت ترى لباسهم الجديد في العيد لتفرح هي بما يهبونها بقديم ما عجزت عن حمله خزائنهم !! أما اللعب فليس عندها إلا وسادة أمها تحدثها وتحتضنها عندما ترقد..

حياة شهدت عليها الصحف ودونتها أنامل رقيقة , لتبقى جرحا غائرا لا يمحى أثره..

أ ,ب ,ت... حروف سرقتها في زمان خلت أيامه, لتتذكرها الآن وهي تعلمها لابنتها الصغيرة, ثمرة طيبة أهدتها إياها الحياة من زوجها الصالح فكان تعويض القدر بقدر الحرمان.

ليس على الهامش:  يأتون بلا ارادة منهم ويقحمون في هذه الحياة , هذه الحياة التي تتلحص السعادة والشقاء فيها في ابتسامة او بكاء واحد منهم... فكيف اراكم في الازقة والشوارع مثل كيس بلاستيكي لعب به الهواء !!