كان الجو حارا مع الكثير من الرطوبة الخانقة، و قد غزت تلك الغرفة ذرات مزيل الرائحة، بمركز الصنوبر تصارع ضباب تبغه القاتم، في السابق لم أكن أتضايق منها لأنها كانت المفضلة لديه، أما الآن و في هذه اللحظة بالذات أشعر برغبة جامحة في تدمير بصمة هذه الرائحة عن الوجود، فلطالما خنقتني بين زوايا هذه الغرفة.
اليوم وضعت فنجان القهوة أمامه بعد أن تعمدت تحرير خصلات شعري على كتفي، فقد قمت بتغيير لونه بالأمس، من الذهبي المشــع إلى البني الغامق، لكنه لم ينتبه،
جلست أمــامــه و ســاد الـصـمـت بـيــنــنا، كنت أفكر بأنانية، و كان هو يفكر بحكمة و روية.
" بالأمس إتصلت بي شقيقتي من باريس تخبرني عن طبيب جراح بارع "
هكذا بدأت حديثي و بهدوء تام، مصطنعة الثقة في نفسي.
أخبرتني أنها قدمت له ملفي الطبي، و أنها قد رتبت لنا موعدا معه بعد شهر من الآن، أرى أنه يجب علينا ترتيب أمورنا للسفر إلى فرنسا،
لم تكن هذه أول مرة نسافر أنا و خالد إلى هناك، و لكن بدت لي مهمة إقناعه بذلك أكثر صعوبة من سابقيها.
لا يزال فنجان القهوة على الطاولة، و قد سكنت القهوة فيه بعد أن رقصت رقصتها الأخيرة، لم يكن يحب تناولها إلا من يدي، أو ربما هكذا خيل إلي.
عشر سنوات و أنا أتحمل تلك الرائحة، عشر سنوات و أنا أعد فناجين القهوة التي لم أتناولها أبدا، كنت أظنها تضحية مني، يا لحماقتي، و كيف أسمي صبره طيلة تلك السنوات من دون أطفال،
كنت أنتظر أن تمتد يده إلى فنجان القهوة أكثر من انتظار رده بقبول فكرة السفر، لكن يده امتدت نحو خصلات شعري، مررها على رأسي و كأنه يحاول أن يطمس ذلك اللون عنه، نظر مليا في وجهي، و خاطبني بهدوء : حبيبتي لا تجهدي نفسك كثيرا، دعينا نعيش ما بقي لنا من حياتنا بعيدا عن الأطباء و الأدوية و التجارب التي لا طائل منها، فأنت تعلمين أكثر من سواك أن الأمل في إنجابك معدما.
وقعت تلك الكلمات على قلبي كجمر ملتهب، لم يسبق أن قالها لي بصريح العبارة من قبل، تردد صداها بين زوايا قلبي الذي استنزف أجمل دقات نبضه، كلما رأيته يلاعب أطفال أشقاءه.
ساد الصمت ما شاء من وقت، قبل أن يحرر لساني من جديد : أقسم أني أرغب في رؤيتك أبا أكثر من رغبتي في أن أرى نفسي أما.
نظر في عيناي مباشرة فرأيت الدموع قد رفعت رايات الحرب لتجرح خديه على مهل، ثم نطقها قبل أن يتركني فريسة بين تضحيته و أنانيتي : الحل بيدك أنت فقط