منتصف الليل وثلث , قام من فراشه معلنا هزيمة وفشله في النوم...سار إلى مقعده الهزاز وجلس وهو يهز بنفسه فاجتمعا صرير الكرسي مع صوت صفارة انتهاء البث على التلفاز الذي أمامه...
اتكأ على مرفقه واضعا كفه على خده , يندب حظه ويلملم خيباته ..وهل يقدر على فعل شيء آخر ؟! واخذ يتأمل في نفسه والمكان ونظراته الغير مصدقة تستنكر كل ما تراه...! أدرك في تلك اللحظة انه لن يستطيع لعب الغميضة ثانيتا , لن يسمع صوت أمه وهي تنهرهم " كفاكم لعبا , أهذه دروسكم ؟!! " أدرك انه لن يستطيع الركض تحت المطر ويده في يد حبيبته وأصوات ضحكاتهم تعلو على ضجيج السيارات وهما يمرحان ويقفزان كفراشات من زهرة لأخرى.. أدرك حينها أن قطار العمر يسير بسرعة القصوى وقريبا يعلن عن وصوله لمحطته الأخيرة...
أطلق الآه ينفث ناره وحر الهجير الذي يكويه من داخله وتململ ليعدل جلسته إذ بيده تحرك سماعة الهاتف ..فأعادها ونفس الفكرة القديمة تراوده..!!
- هل اكرر اللعبة الآن ؟ لما لا ؟ هكذا أفضل أريد أن أعود إلى أخطائي أن أسير على نفس الأشواك..لأعيد تدمير نفسي من جديد..!
جهر بهذا وقد سحب دليل الهاتف من جانبه واخذ يفكر..
- اممم من أين نبدأ ؟ هل سأختار اسما أم رقما ؟ لا بل أرقاما عشوائية ...!
- الو....
- الو...ممكن نتعرف ؟
- طوط...طوط...طوط....
- الو....
- السلام عليكم , من معي ؟
- اعتذر عن الإزعاج واسأل فقط إن كان بالإمكان أن نتعرف...
- لا..لا يمكن.طوط....طوط....طوط...
تكررت محاولاته وخيباته لكنه مصر على ذلك , مصر على أن يكرر التجربة..
- الو...
- أريد دقيقة فقط لتسمعيني , عندي مشكلة واشعر بالضيق..
- وهل قالوا لك أني حلالة مشاكل .طوط...طوط...
وضع السماعة ليلتقط دموعه التي تناثرت ونفرت من عينيه لتعلن احتجاجها على وجودها في عين شخص مثله..لكن هل فعلا يريد أن يكرر اللعبة القديمة ؟ أم انه يريد أن يشتكي ضيق صدره وهمومه لأي شخص لا يعرفه يعترف بكل عيوبه ويقر بكل ذنب ارتكبه..أو لعله يريد البكاء بصوت عالي واحد يسمعه حتى وان لم يخفف ما به ...!!
عاد إلى السماعة, وبدت أنها محاولته الأخيرة هذه المرة..
- آلو...
- أريد أن أتكلم , أن أقول كل ما بي , أن اصرخ
- لماذا ما بك ؟
جاء صوتها المتعجب ليفجر كل تصدعاته إثره..
- اجل اشعر أني بلا حياة , أن كل شيء تمنيته سحب مني وراح...اشعر أني مثل الجماد بلا ضرورة لوجودي...هل تعرفين ؟
- ماذا ؟ تكلم إني أسمعك..
- حياتي كلها الم وهموم وفراق مرسوم في كل وجهة.. رأيت ورأيت...رأيت لحظات موت أبي وسمعته وهو يقول لهم أدخلوني إلى غرفتي أريد الموت هناك , ورايته وهو ممدد وقد عدل وجهته ورفع إصبعه للشهادة...رأيت ذلك بعيني وليس حلم ...أصوات البكاء وأخواتي وأمي التي لم تعرف أين تذهب أو ماذا تفعل..وأنا مسمر بذهولي ومنظر آبي وأختي تحتضنه وتقول لا يا أبي لا....أردت ساعتها أن أتفسخ واندثر هباء منثورا وان امحي وجودي حتى لا أعيش تلك اللحظات.......ثم كانت إرادة الخالق وعاش أبي ولم يمت لكنها بقت سيناريو محفوظ لما سيحدث مستقبلا...
صمت قليلا ثم قال آلو !! ليعرف إن كانت مازالت معه على الخط..
- اجل أنا معك وأسمعك يمكنك أن تتكلم وتكمل..
اطرق قليلا وهو يستمع إلى أنفاسها الهادئة فشعر بالطمأنينة تسري إليه وتتخلل أوصاله..ذلك الإحساس الذي نسيه منذ زمن بعيد...
- ولكن لم تسأليني من أكون !! وأنا أيضا أريد أن اعرف اسمك
ابتسامة تحولت إلى ضحكة قطعتها لتقول
- نورة
تزلزل كيانه كله عندما سمع اسمها يتردد عبر الأسلاك..!! نورة !! هل يعقل أن يكون كل هذا صدفة وترتيب من القدر ؟ نورة !؟ تلك التي عرفها منذ سنوات بنفس هذه اللعبة اللعينة.. تلك التي أحبها بكل صدق وارتبط اسمها بلحظات الأمل التي في حياته والتي انتهت بالفراق !! تلك التي شاركته أحزانه وأفراحه.. تلك التي عرفها لثلاث سنوات ولم يراها يوما ! تلك التي رسالتها التي بخط يدها في درجه إلى الآن..! تلك التي إذا بكى تقول " ما بال ولدي ".. تلك التي شاركته الحلم الجميل والركض بجانب الوادي وبيت تضيئه شمعة وأولاد اختاروا أسمائهم " محمد واحمد ومحمود ". ..
وسط كل تلك الذكريات التي انصبت كتلة واحدة عند رأسه انتبه ليسمع ذلك الصوت
- طوط...طوط...طوط...
انتفض مرعوبا ليعيد الرقم فكانت كلمات الموزع الصوتي
- نرحب بكم ونعلمكم أن الرقم المطلوب غير مبرمج بالشبكة..نرجو التثبت من الرقم او الرجوع إلى آخر دليل للهاتف..
ليس على الهامش :
اشعر احيانا ان الكون بقبضتي , اني اعرف كل كل البشر....واحيانا اخرى اشعر اني غريب عن هذا العالم بلا قيد او اثر........... |