رسَالة عاجِلة
تقدم بإجهاد إلى علبة الرسَائل القديمة، ثم فتح بابها بلهفة مع أنها عادة ما تكُون فارغة، أمعن التحديق في زواياها المظلمة، فوقع نظره في زاوية منها على ظرف خالص البَياض، و ما إن أخذه بين يديه حتى أغمض ببطأ رموش جَفنيه، ثم أخذ نفساً عميقاً نبس بعده بآه طويلة أعقبها بآه صغيرة، و هو يحضنه بشدة كَأنه فلذته إنشطرت من كبده ثم عادت إليه أخيراً، أو روحه التي فارقت أيام حياته و تركَت له محنة الذات كعقاب يتحمل عناء العيش به.
تمعن كثيراً في الظرف قبل أن يفتحه، و هو لا يصدق بعد حقيقة ما يراه بأم عينه، فلقد نخر الشك رميم عظامه و تجاوز فلسفة ديكَارت البدائية، ثم أتت تقلبات نفسه على تفسِيرات فرويد و ذرتها رماداً تعبث به وفق الأهواء، و فاقت فاجعة سيرته الذاتية السطور البئيسة لهيغو، لتذهب بها مع رواية ذهب مع الريح. فلقد مرت عليه السنوات المريرة و هو منفي قهراً في جزيرة الهجر البعيدة، حتى جعل له فيها من وساوسه مسكناً له و قوقعة مغلقة عليه، ينعي داخلها أيامه الخالية و يخلد فيها في كل سنة ذكرى نكسة أحلامه الوردية، حتى نصب لها في ساحة قلبه الصغير نصب تذكار كبير، يشهد به وحيش الأرض و جانها و إنسها على ضياع ماهيته و حقيقة هيامه، و ليقيد نفسه و عن طواعية بسلاسل من الماضي الجميل لم تزده مع الوقت إلا رهقاً و سهاداً، بحيث كان لا ينخفض أوار أشواقه إلا عندما يبدأ الديك في الصياح و تخلد شهرزاد القصص إلى المنام، لتدخل بعد ذلك أحاسيسه في مرحلة الهدوء الذي يسبق العاصفة مع مشرق الشمس، و لتصل لمرحلة الإنفجار الذي يهز ما بقي من تصدعات الوجدان، مع دجى كل ليلة من ليالي السهاد القمرية، و في ذهنه خياران إستحال ثالثها :
إما الموت السريري البطيء على بر اليابسة و في صمت
أو التهور و الإقدام على الإنتحار بين أمواج بحر الأشواق المسعرة
فتح الرسالة برفق مُبالغ فيه، كأنها وردة لينة تفتحُ أوراقها الحمراء بين يديه، فودَّ و لو إنتزعها بالسحر من دون أن يفتح الظرف، و تمنى أيضاً في لحظتها لو أن التخاطب عن بعد و التخاطر كانا لغة الإنسان الرسمية، و يا حبذا كذلك لو درس التليباثية للأجيال الناشئة بحسب وجهة نظره. ثم فرد الرسالة بحنان و عينه كلها لهفة لتروي ضمأها المهول من الحروف، فكانت نظراته تنساب بسَلاسة بين السطور لتصل إلى مضمونها من دون أن تعكر صَفوها، إستغرق منه مجرد القراءة و الإستيعاب مدة نصف اليوم، فقد كانت تتوقف روحه عن الحياة لعدة دقائق أمام كل حرف تتحسسه بخاطرها، كأنها تحاول أن تعيش الحرف بلواعجها لا أن تقرأه، فأحس بعذوبة سكرات الموت لأول مرة، و بنشوة الإحتضار بين أيدي الرياحين. و حين كَان ينهي القراءة يعود لنقطة البداية من جديد، حتى حفظها عن ظهر، أما عن معانيها فعلى ما يبدو أن ذلك سيسْتغرق منه عمراً بأكمله.
توجه بعد ذلك إلى غرفته الصغيرة خلسَة و أقفل عليه بابه، ثم جلس بتوتر على مقعد مكتبه المهترأ، و طوى الرسالة ببنانه المرتعشة من فرط الأشجان، ثم وضعها في جيب قميصه الأسْود القريب من نبضات قلبه، بعد ذلك حمل بحرارة قلمه حتى ذاب في بصماته، و إنعكف على صفحة الورقة البيضاء يكتب ما يلي :
" بسْم الله الرحمن الرحيم
من : روحي
إلى : توأم روحي
أما بعد،
يا روحي أتذكرين حينما كَانت تتكالبُ علي سرايا الأشواق في كل ليلة تحت جنح الظلام، بإيعاز من قلبي العميل لحساب خفقات غيري، أتذكرين كيف كنت أجد نفسي وحيداً في زنزانة الإقامة الجبرية على شرف الماضي، و محاصراً بجيوش لا تنقطع من فيالق السهاد تتقدمهم خيالة الآه، و هي تشرع في وجه آمالي البريئة أسنة رماح الذكريات الحية، و لا تسعى إلا لإستنساخ سيرة جنون قيس ليلى، أو لإعادة أمجاد رويات شكسبير على حساب روميو، حتى أوشكت على الجنون و أنا أطلب المنون.
أتذكرين يا روحي ؟!
فكنتُ يا روحي كلما حملت بين يدي الممتنتين لأهدابك، قلم الإحساس الشفاف لأخط بحبر دمي المسفوك الذي ينزف بسيل الوداد، كل ما يدور في خلد روحي التائهة مع دورة الحياة في شرايين فؤادي، حتى يزهد بعد هنيهة في حروف لغات الدنيا و أبجدياتها، أتعلمين ؟!.. أتعلمين كم من لغة تعلمها و نطق بلسانها، ثم أفلس رصيده منها عندما خطر ببالي تبليغ حرف حنين بها، أتعلمين بالشلل الذي أصابه منها بعد يأسه منها ؟!، نعم، فكأن الكلام ما عاد يسعفه في سرد تفاصيل مشاعره، أو أنه يحاول عبثاً إبتكار لغة جديده قواعدها أكبر من المحبة ونحوُها أصل الوفاء، لا يفهمها في هذا العالم سوى إثنان.
نعم..
لغة في هذا العالم لا يفهمها سِوى إثنان، و أحلام نورثها الزمان، و دنيا كَبيرة لا يمكن إختزالها في المكان
نعم، فقد كُنت..
و كَانت حياتي بلا ألوان حتى جعلتها أنت لوحة جمال بلا إطار،
و عِشت..
و ما عشت الحياة بحياتي بل حسبت قهراً عليهاً حتى أيقظت في نفسي رغبة البقاء،
و صُلت..
و جلت هائماً على وجه الأرض حتى إستقبلتني بحفاوة، و جعلت لي من حروفك مساكن لي و مضارب خيام،
و متُ..
و من رماد الماضي الملتهب إنبعثتُ كعنقاء أسطورية بعد أن سقيتها بملأ الحنان بقطرة من ماء الوصال،
و إن..
و إن مر بخاطرك يا روحي معرفة أبسط أحساسي،
فخذي من اللغة العربية كل الأسماء و الكلمات و التعابير الجميلة..
خذي منها على سبيل المثال :
الهيام و الصبابة و الوجد و لا تذري منها شيئاً
نعم خذيها كلها..
و لكنها مع ذلك ما كانت إلا لتعرب لك عن :
شُكري
و زدي عليها لكنات العجم،
خذي منها أروع ما خلدته فنونها و آدابها،
نعم خذيها..
و مع ذلك فلن تسعِفني حتى في أن أصف :
تقديري
و خذيني كلي معك فهذا أبسَط تعبير عن :
إمتناني و عرفاني
مع سَلامي المسترسل"
أنهى الكِتابة ثم وضع القلم على سطح المكتب، و طوى الورقة بحرص شديدة كأنه لا يريد لها أن تطوى داخل ظرف، بل في أن تصبح حقيقة جلية يشهد عليها كل الخلق، ثم ألصق بأنفاسه الحارة الطابع البريدي على ظهرها، و لما هم بكِتابة العنوان، أخذ ظرف الرسالة التي وصلته لينسخه منها، و لكنه فوجأ بأن الرسالة لا تحمل عنوان الوجهة التي قدمت منها، فإبتسم و هو يقول مع نفسه :
أحياناً قد يكون للتفاصيل الصغيرة معاني جد كبيرة
فعاد إلى ظرف رسالته و كتب على ظهرها في مكان العنوان :
مهدُ الحياة
ثم خرج بسرعة و وضع الرسالة في صُندوق البريد.
بعد ذلك ظل بقية عمره يفترش أيامه المقبلة، و هو ينتظر بفارغ الصَّبر رسالة أخرى طائشة تقع بالخطأ في صندوق بريده.
بقلمِي... 