و مع صَباح أحد أيام الأحد، و بينما شمس مشغولة بإقامة شعائر طقوسها المعتادة، قدم صبي إلى الحديقة الخلفية حاملاً معه طائرة ورقية بسيطة، أطلقها في عنان السماء ضد مجرى الرياح، و هو يمسك بين أصابعه بطرف خيطها، و عندما طارت أخذ يصيح من الفرحة و قدماه تركضُ خلفها، و بينما هو مستغرق في لعبه و لهوه بكل عفوية، كسَّرت ضحكاته البريئة سكون الحديقة و وقارها، فأثار صداها المتردد بين أعمدة الشرفة إنتباه شمس و شتت تركيزها. إرتسَمت على ملامحها تقاسيم الغضب الجميل، فما عرفت القسوة في يوم الطريق إلى قلبها، بل هي مسألة مبدأ و تقاليد يوم العطلة الأسبوعي المنتظر بفارغ الصبر، فوضعت الرواية التي كانت تقرأها على جنب، ثم وقفت و إتكأت على منصة الشرفة واضعة يدها على خدها، و بعينها اللتان يستشيط منهما شرار الإستياء، أخذت تبحث بفضول بين أشجار الحديقة، عن الذي كسر سكون الأحد المهيب، حتى لمحته و هو يهرول كالمجنون خلف طائرته الورقية، فنظرت إليه بإستغراب شديد، ثم إرتسَمت على محياها إبتسامة رغماً عنها، عندما رأته يتعثر و يقع أرضاً ليقوم من دون أن ينفض الغبار عنه، بعد ذلك و في لحظة سهو أطلقت العنان لكل جوارحها، فكانت تقاسِيم وجهها تتجاوب وفق أحواله، تضحك عندما يستشيط غضباً، و هو يحاول فك حبل طائرته الورقية من أحد الأغصان التي إلتف حولها، و تغمض عينيها خوفا عليه حين يعاود الكرة و يتعثر و يسقط على رأسه، و تعبث بضفائر شعرها حين يحالفه الحظ أحياناً و تطير طائرته، و تتفوه من الملل حين يغيب عن ناظريها بين أشجار الحديقة..
حتى فَلت من بين أصابع يده حبْل الطائرة الورقية، فحملتها الرياح معها إلى أن علِقت بشرفة منزلها، نظر إليها من أسفل العمارة بإستحسان، فلوحت له بيدها ليصعد و يأخذ طائرته، و لما وصل الشقة طرق الباب برفق، ففتحته و ما إن رفع فيها عينيه، حتى غضهما من فرط الصفاء الذي يشع من وجهها، فأصاب الخجل خديه بحمى التورد، ثم قال لها بصَوت خافت بعد أن عقد الحياء لسانه لمدة وجيزة :
من فضلك، أريد طائرتي الورقية التي علقت بشرفة منزلكم، و أعتذر سلفاً على الإزعاج
رمقته عن كَثب بعينيها كأنها تقرأ فيه فصول رواية جديدة، ثم قالت بسخرية :
إن لم تكن تجيد إمساك الحبل على الأرض بَعد، فلماذا تغامر بطائرتك الورقية في السماء ؟!
فرد عليها بنبرة مِن الأسى :
إن لم يكتب لي في يوم تحقيق حلمي بيدي في بلوغ عنان السماء، فيكفيني فخراً أن تطير طائرتي الورقية بأحلامي بدلا عني،
نعم، يكْفيني شرف المحاولة..
أصغت له بتأثر ثم ناولته طائرته الورقية و هي تحس ببعض الندم، فقالت لتواسيه :
نعم، و ربما كان حبل الطائرة الورقية قصيراً
فقال لها و البَسمة تنبعث من محياه :
نعم، ربما كَان حبل الطائرة الورقية قصيراً،
و لكن حبل الحياة أقصر، و مع ذلك فهي جميلة،
و سر السعادة فيها هو في أن نحياهَا
ثم أخذ طائِرته معه و نزل درج العمارة، فأقفلت عليها الباب و هي لاتزال تفكر فيما قاله.
بعد مرور عدة أسَابيع تخلت شمس عن عاداتها القديمة و تقاليدها، بحيث ما إن يصل يوم الأحد حتى تقف على شرفتها و هي تنتظر قدوم الطائرة الورقية و صاحبها، ثم تقضي يومها كله في مراقبته، و مع الوقت بدأت تحس بنشوة غريبة تتسلل إليها، فكأنها أثناء مراقبتها له كَانت تمسك بخيوط رفيعة للحياة معقودة بأطرافه و مربوطة بتعابير وجهها، تحركه بها من خلف ستار قلبها المسدول على أحاسيسها، في تجسيد حقيقي لدور محرك الشخوص في مسرح خيال الظل تحت أشعة شمس الحديقة.
و في أحد أيام الأحد، و بينما هو يركض خلف طائرته الورقية، إقتربَت منه شمس و بين يديها طائرة ورقية كَانت قد إشترتها من مالها الخاص، و عندما إنتبه إليها إبتسم و بادرها بإلقاء السَّلام فردت عليه التحية ثم قالت و هي تومئ له بطائراتها الورقية :
هل تعلمني كيف أطير بطائرتي ؟!
فقال لها و البسمة لاتزال مرسومة على محياه :
بل قولي تعالى سوية نتعلم على يد الحياة كيف نطير بطائرتينا الورقيتين يا أختي..
فقالت بعد أن أحست بالإرتياح من الكلام الذي قاله :
شمس
و منذ ذلك اليوم و هما سوية في الحديقة مع مشرق كل يوم أحد، يركضان هنا و هناك بين الأشجار، و ضحكاتهما المدوية تصدح في الأجواء بين جدران العمارات الإسمنتية، حتى ألفا بعضهما البعض، فما كان يتعثر أحدهما حتى يمد له الآخر يد العون، و إن علقت طائرة أحدهما بين الأغصان فإن الآخر يحْمله حتى يخلصها، و إن تشابك حبل طائرته بحبلها، فهما يقضيان الساعات في محاولة فك الحبلين، و على هامش ذلك كَانا يتجاذبا الحديث حول أي شيء، من الرسوم المتحركة إلى تصوراتهما حول الحياة.
و في أحد الأسبوع الموالي و بينما هما في الحديقة، هبت فجأة ريحٌ قوية ففلت خيط الطائرة الورقية من يد الصبي، ثم حملتها معها بإتجاه الطريق السيار الذي يحد الحديقة، إبتسم في وجهها ثم ذهب خلف طائرته الورقية و هو يقول لها :
إنتظريني سَأحضر طائرتي و أعود
مرت السَّاعات على إختفاءه، حتى أحست شمس بالغضب مع طول الإنتظار، و عندما شارفت الشمس على المغيب، عادت إلى منزلها و هي تنقم عليه غيابه بدون توديعها، ثم مرت أيام الأسبوع حتى وصل يوم الأحد، فإستيقظت و رواسب العِتاب مع الغيظ مع الإستياء لاتزال عالقة بروحها، و عندما قصدت الدرج الذي تحتفظ فيه بطائرتها الورقية لم تجدها، فتوجهت للمطبخ حيث أمها و سألتها بتوتر :
أمي، هل شاهدتي طائرتي الورقية ؟!
فقالت الأم بنبرة إستنكار :
و ماذا تريدين بها يا بنيتي ؟!
فقالت شمس :
أماه، أن تطير أحلامي مع طائرة من ورق في الحديقة، خير لها من أن تبقى حبيسة السطر بين الجدران
فقالت الأم :
و لكن يا بنيتي إني أخاف عليها من أن تألف الطيران، و تنسى على أرض الواقع حقيقة بني الإنسان.
بنيتي أما بلغك نبأ ذاك الصبي المقبل على الحياة، حين لحق بطائرته الورقية في الأسبوع المنصرم، حتى أورثته حتفه على الطريق السيار الذي يوجد خلف حديقة عمارتنا، فلقد صدمته سيارة كانت تسير بسرعة جنونية و هو يجري خلف طائرته.
و ما إن سمعتْ شمس ما قالت لها أمها، حتى أحست بالدم يتجمد بعروقها، و بالحُروف تتوقف في حلقها، و بالكاد إستطاعت تحريك شفتيها و قالت :
رباه
خرجت بعدها بدون وعي منها، تجري حافية القدمين كَالمجنونة فوق درجات العمارة، مروراً بأغصان الحديقة المتشابكة، ثم وصولاً إلى الطريق السيار، فوقفت تلهث و هي بالكَاد تتبين ملامح محيطها من كثرة الدموع التي ظلت حبيسة عينيها، ثم لمحت من بعيد طائرة الصبي الورقية بين الحشائش، فأسرعت إليها و عندما حملتها وجدتها بحالة جيدة، لكنها كَانت ملطخة بالكثير من بقع الدم الغامقة، فضمتها بين أحضانها و أجهشت بالبكاء لساعات عديدة، و عندما أفرغت بعضاً من شحنات حزنها، مر بخاطرها الترحم عليه، و لكن..
لكن وجدت نفسها للأسف لا تعرف حتى إسمه، فكَانت الصدمة عليها مضاعفة، فالذي تريد أن تبكيه فاتها حتى أن تسأله عن إسمه.
عادت مع مَغيب الشمس إلى منزلها، فأقفلت عليها باب غرفتها، ثم جلسَت مصعوقة على مقعدها، و هي تصغي لصوت الكناري الشجي، و فجأة قامت إلى القفص و فتحت بابه ثم أمسكت الكَناري بين أناملها برفق، و أخذت تحدق في ريشه الذهبي بعينيها الحزينتين، ثم أغمضت جفنيها و هي تطلق سَراحه من بين يديها. و من يومها و هي لا تنتظر إلا قدوم يوم الأحد، فتتسلل من بيتها و تنزل إلى الحديقة الخلفية، لتخرج الطائرة الورقية من بين أوراق أشجار السنديان التي تخبأها تحتها، ثم تطلق لها أشرعتها في فضاء الحديقة الفسيح، و هي تمسك بطرف خيطها، و عيناها تائهتان خلفها بين السحاب، بحيث كانت لا تقيم وزناً لا لخطواتها و لا لطريقها و هي تركض خلفها.
و لكَن، كان كل هذا يتم في صَمت..
إلى أن تعثرت ذات مرة بحجر و هي تجري خلف الطائرة الورقية، فترنحت ثم وقعتْ على الأرض، فأفلتَ حبل الطائرة الورقية من يدها، ثم حملتها الرياح و طارت بها بعيداً معها، إلى أن إختفت تماماً بين السحاب، و قبل أن تذرف شمس دمعة حسرة واحدة، مر من أمام عينيها ومضات من شريط الذكريات، ثم توقفت بها الذاكرة فجأة عند لقائها بالصبي لأول مرة، فتذكرت جملته التي حفظتها عنه عن ظهر قلب :
إن لم يكتب لي في يوم تحقيق حلمي بيدي في بلوغ عنان السماء، فيكفيني فخراً أن تطير طائرتي الورقية بأحلامي بدلاً عني
ثم قامت و كَففت دمعها و عادت إلى منزلها.
مع مرور الوقت عادت شمس إلى شرفتها و فنجانها و مقعدها المتأرجح، و رويداً رويداً عادت إليها هوايتها القديمة. و لكن، حين كانت مستغرقة في القراءة هذه المرة، كان بين يديها كِتاب :
( لا تحزَن )
بقلمِي... 