كانت الجلبة التي يحدثها نورس في غرفته لا تزعج أهله بقدر ما كانت تألمهم، ففقد لاحظت أسرته الصغيرة تغير أحواله، و كثرة شروده و ميله للعزلة و الإنطواء مؤخراً، حتى بدى ذلك جلياً على تصرفاته، و على تقاسيم وجهه الشاحبة و ملامحمه العابسة، بسبب سوء التغذية و السهر، إضافة إلى إهماله لهندامه و أناقته المعهودة. فتش إخوته كثيراً عن سبب منطقي لهذا الإنقلاب الذي طرأ على حياة أخيهم الأصغر نورس، فلم يجدوا لذلك سبيلاً، فمن قبل كان أخوهم مستريحاً شيئاً ما في عمله، قبل أن يستقيل منه عن محض إرادة، فلم يسبق له في يوم أن إشتكى من راتبه أو من ظروف شغله، كما أن علاقتهم به كانت طبيعية وجد طيبية، و لم يبقى أمامهم من سبب إلا و إنتفى، اللهم من خروج أخيهم من تجربة عاطفية فاشلة لا محالة، و عندما كان يهم أحدهم بمواجهته بتوجساتهم، كان يسارع إلى التهرب من الموضوع و اللف و الدوران، حتى عدموا معه الحيلة، فأنيطت مهمة خرق الخطوط الحمراء لأمه، و ذلك لعظم حبه لها، بحيث كان بالكاد يفترق عنها في أيام صغره، فإختلت به في غرفته الخاصة، ثم حاولت عبثاً أن تنتزع منه ما يشفي غليلها، و لكن بدون جدوى، فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تخفق فيها في إستدراج لسان فلذة كبدها في الحديث، و كان كلما طمأنها على حاله تزيد ريبتها و مخاوفها.
فيما بعد، أحس نورس بأنه محط إهتمام أفراد أسرته، فبدأ يميل إلى الهروب من البيت بقدر الإمكان، و التسكع بين ممرات القلعة المهجورة الموجودة بالقرب من الشاطئ، و التي جعلتها نوارس البحر مستوطنة لها، بحيث لا يسمع بين أقواسها إلا صياحها و صَدى صرير الرياح. آلف صاحبنا نورس المكان، و بدأ يمضي فيه الساعات تلو الساعات، محملقاً بعيونه التائهة في النوارس أثناء طيرانها في الفضاء الفسيح، أو و هي ناشرة أجنحتها تحت أشعة الشمس بعد الظهيرة، لتجفف ريشها من قطرات مياه البحر العالقة به، و لتنعم بقيلولتها و تهضم طعامها بروية، و يبقى نورس مستغرقاً في التحديق، حتى اللحظة التي تشرع فيها الطيور أجنحتها، و تطير سوية مع كل مغيب للشمس إلى أعشاشها في الجُزر البعيدة، ليغادر نورس القلعة و يتوجه إلى رصيف المنار، حيث يقضي هناك ساعات أخرى تحت ضوء الفنار المتقطع، قبل أن تنتزعه لفحات البرد القارس من سكرات هذيانه و هلوساته، ليعود إلى المنزل و كل أهل بيته نيام، و يقفل عليه باب غرفته.
مرت على نورس عدة أشهر هو يختلي بنفسِه في القلعة، حتى إزدادت حالته الصحية و النفسية سوءً، و في إحدى المرات و بينما هو جالس لوحده كالعادة، تسرب إليه الملل، فلمح قطعاً من الفحم الأسود وقع عليها نظره، فلم يستطع مقاومة رغبة الكتابة الدفينة بين أضلعه، فحمل بين يديه قطعة منها، ثم توجه إلى أحد أسوار القلعة، و بدأ يكتب عليه كل ما يؤرق باله، و ينهك دقات قلبه المفجوع، و لما أشبع رغبته في الكتابة، عادت إليه نزوته القديمة في محي كل السطور التي كتبها، غير أن طقوساً غريبة لطيرين من النورس حطا بالقرب منه تشتت تركيزه، فجلس القرفصاء و هو يتفرج على رقصهما و غزلهما لبعض، حتى خيم الظلام فطار النورسان إلى عشيهما، و في غمرة هذا كله نسي نورس أمر الكتابة، فحملته قدماه بدون وعي إلى رصيف المنار ثم إلى منزله كالعادة.
في الغد، وجد نفسه وحيداً كالعادة في القلعة العتيقة، و وجهاً لوجه مع الكتابة التي خطها بالأمس على السور، فألهمت الحروف في خاطره الأشجان الراقدة في طيات قلبه بشهوة الحياة، فحمل من جديد الفحم بين أنامله، و شرع في كتابة سيل من التساؤلات و الأماني الأخرى، و كان كلما مر عليه يوم في القلعة، إلا و إنضافت للسور العظيم قوائم أخرى من تساؤلاته، و هكذا دواليك.
و في إحدى المرات، وصل نورس مبكراً، فوجد على سور أسراره في وسط القلعة المهجورة، ما قد قد أصابه بالإندهاش حد الوجوم لمدة نصف ساعة، و هو واقف في مكانه لا يحرك ساكناً، فقد وجد بين ليلة و ضحاها كل أسئلته العاتية مجاباً عنها، و الأكثر غرابة أن الأجوبة كانت قريبة جداً من تفاصيل حياته، كأنما الذي خطها له دراية تامة بسراديب روحه و دهاليز قلبه، فتشابكت كل الإحتمالات في ذهنه، بالأحاسيس التي لفظها قلبه فجأة، فخرج بقناعة أن من كتب هاته الحروف هو كاتم سره و مالكُ رصاصة رحمته، فأحس ببعض السكينة برغم حالة الإضطراب التي إنتابته، و لما هدأ تماماً حمل الفحم و كتب على السور :
كنت مستعداً لأن أدفع حياتي ثمناً لمن يحل ألغازي و يفك أحجياتي و يجيب على تساؤلاتي،
حتى أني عرضتها على الحكماء،
فقالوا لي حروفك تنطق عن حرقة الهوى و لا تعقل بمنطقنا و حياتك أصلاً لا تهمنا،
فإن كنت حقاً تبحث عن الأجوبة فستجدها عند من أفقدها نجواها حتى جعلك تهيم على هواها،
فيا قارئ أفكاري أحكيم أنت ما إعترفت به محكمة عقلاء بني الإنسان ؟!
أم أنك كَحالي عن لوعة الهوى تنطق كمن أصيب بمس من مردة الجان ؟!
بعد ذلك إنزوى نورس في مكَان مظلم من القلعة، و هو يراقب عن كثب كل ما يجري من حوله بدون أن يغفل شيئاً، حتى خيم الظلام فبدأت ترتعد فرائصه من حدة الرياح المحملة بالرطوبة القادمة من البحر، فجلس و هو ينفخ من روحه في يديه المرتعدتين، و رويدا رويداً بدأ النوم يغالب عيونه المرهقة، إلى إن إنتزعته صيحات طيور النوارس من نومه مع حلول الفجر، ففتح عينيه بسُرعة ثم حملق في السور، فوجد أسفل العبارة التي كتبها بالأمس :
السبب الذي أخرجك في وضح النهار تهيم على وجه الأرض،
هو نفسه السبب الذي أخرجني متخفياً و أنا أتسلل تحت جنح الظلام،
هي أسئلة لا تقبل إلا إجابة واحدة و معادلة أساسها إثنان و حقيقة بادية للعينان،
و لكن أنتَ و أنا كنا لها آخر من يعلمان..
فلم يستطع تمالك نفسه و قطرات من دموع الفرح الطائشة تغسل بورع خديه، و أخذ يصيح و هو يقفز في مكانه في نوبة أخرى من الهستيريا :
و أخيراً..
و من يومها جعل نورس من القلعة القديمة عشه الآمن رفقة نوارس البحر، و من أسوارها أجنحة مشرعة تطير بآماله مع متمنياته في سماء الجنون، حتى إعتاد على صرير الرياح و ألف رطوبة البحر، هذا كله دون أن تلمح عيناه الساهرتان طيف الإنسان الخفي، الذي يجيب على تساؤلاته العصية و يرعى أحلامه الوردية.
و منذ تلك الحادثة، لاحظت أسرته الصغيرة أن حاله قد صار من سيء إلى أسوأ، و أن الأمور زادت عن حدها و لم يعد ينفع السكوت عليها، بحيث أن ميله للعزلة و الإنطواء تفاقم بشكل مهول، كما أن مزاجه أصبح أكثر تقلباً و طباعه يلفها الكثير الغموض، و زاد أيضاً أمر غيابه المتكرر عن المنزل و شروده، و زادت حوادث نسيانه، و أحياناً كان يهذي لوحده و يتمتم بكلمات غامضة ككاهن ينبس سراً بالطلاسم.
حاولوا عبثاً التقرب منه و التواصل معه، و لكن بدون جدوى، حتى يئسوا من ذلك، فإتفقوا مكرهين على أخذ موعد له من عند عيادة الطبيب النفسي، الذي يبعد عن منزلهم بعدة أميال، و إستطاعت أم نورس أن تقنع إبنها المحبوب بإجراء فحص طبي عادي يطمئنها على حالته الصحية، فوافق على ذلك بدون أن يبدي أدنى إمتعاض، فلم يسبق له في يوم أن رفض لأمه القريبة من نبض قلبه طلباً، كما لاحظ بنفسه تدهور حالته الصحية بشكل كبير، بحيث أن الشيب أصاب جل شعره قبل الأوان، كما أن جسده أصبح هزيلاً جداً، و لم يعد يقوى حتى على المشي كثيراً كعادته.
بعد مدة وجيزة وصلا إلى العيادة، فإستقبلهما الطبيب بإبتسامته العريضة، ثم إستفرد بنورس ما يقرب الثلاث ساعات، عرف خلالها بديبلوماسية كيف ينتزع الكلام من طرف لسانه، فأخذ نورس يحدثه عن القلعة و عن قصته مع السور و يسهب في الحديث عن ذلك، إلى أن قال كل ما عنده مع تحفظه الدائم على سر أسراره، فإبتسم الطبيب في وجه و هو يدندن برأسه كإيماءة منه بالإصغاء و التأثر، ثم قام و ربت على كتفه بدون أن ينبس بكلمة و توجه للباب، أحس نورس بالراحة بعد أن وجد من يتفهم قصته العجيبة، خرج الطبيب إلى أم نورس و قال لها :
ألم تلحظي مؤخراً بعض التصرفات الغريبة التي طرأت على حياة نورس مؤخراً ؟!
فقالت الأم :
نعم، فقد أصبح يميل كثيراً إلى الهذيان و الشرود و العزلة و الإنطواء، و أحيانا كان يبيت خارج المنزل في الآونة الأخيرة، و أحيانا أخرى كان يبيت في المنزل، و لكنني عندما أتفقده بعد منتصف الليل لا أجده على سريره، و مع الصباح الباكر عندما أعود لغرفته أجده نائماً فيها
و عندما أتمت حديثها قال الطبيب :