البطل الصغير .
كان يوم جمعة عقب خروج المصليّن من الجوامع . انتشر الصبيّة في الزقاق و الحواري ، و أنا واحدُ من هؤلاء الصبيّة الذين شدوّا نهاية قمصانهم إلى وجوههم ملثميّن إياها بها ، يضغطون على حجارة ألتقطوها من على أطراف الشوراع ، مفتتة قُدّتْ من حجارة أكبر حجماً و أثقل وزناً . عبرتُ إلى الرصيف المقابل ، الذي غُرِسَ بالأشجار الفارعة الظليلة . كان الطريق ضيّقاً و كانت سيّارته الرصاصيّة اللامعة تحت الشمس تصطف هنالك بين مجموع السيّارات الأخرى . عندما تقدمتُ بضعة خطوات من السيارة ، شعرتُ بذنب ٍ صغير ، فالسماء تظلُّ لا تمنح الأعطيات و لا تهب المال الذي يمكّنهُ من أن يبتاع هذه السيارة الفخمة ، هذا إذا لم نفترض أنه بذل جهداً و تعباً كبيرين للحصول عليها ، لكن ذلك كله تقلّصَ من ذنب ٍ صغير إلى لا شيء ، عندما لاحَ لي وجه أمي الجميل ، و التي ترقدُ الآن تحت التراب ، ذهبتْ إلى العالم الآخر من غير أن تقول لنا كلمة وداع واحدة أو أن تبكي و تذرف الدموع لمُصابِها على الأقل . كانت أمي مصابة بمرض السكري ، و لا يفوتني أنها ليلتها قد ألمحتْ إلى أن ضغط دمها قد ارتفع ، و من الأجدر الإشارة إلى أن أمي كانت من تلك الفئة القليلة من الناس الذين لا حدّ لمكابرتهم على الأوجاع و صبرهم على الشدائد ، و ظنيّ في هذه اللحظة أنها لو أحسّتْ بقرب ساعتها ، لاكتفتْ بتحريك كفّها أو الغمز بعينها ، و ذلك لكي لا يشعر أقرب الناس إليها و لو بالشعور فقط ، أنها تعاني و تتألم . داهم المستوطنون بيوت كثيرة ، قذفوا محتويّاتها خارجاً ، و أذكرُ مرة ً حديثاً لصديقي مفاده ، أنهم بقوا في العراء يلتحفون السماء
و يتفادون نظرات السابلة ، يتقبّلونَ صدقات الجيران طيلة الأسبوع الأخير في رمضان . لقد أفطروا و تسحروّا في العراء ، و لما حلّ العيد لم يشعروا قط ببهجته و جوه الإحتفالي .
ليلتها كان دويّ قنابل الصوت كافيّاً لإفزاع و إرهاب سكان مدينة بحالها و ليس سكان حي صغير و حسب ، حيث لفّ الدخان شوارع الحيّ ، كأنما الشارع بالمقبرة التي يتفرّع إليها و المدرسة التي لم تنجوا من هجوم المستوطنين عليها ، أضحتْ سماءً بصفحة صقيلة تكاثفتْ عليها سحبٌ سوداء تنذرُ بعاصفة ٍ قريبة ٍ هوجاء . منذ زمن لم يتسع في حيّنا إلا رقعة نهضتْ فوقها المقبرة ، و هذه أيضاً لم تسلم من التخريب الذي أقدمَ عليه المستوطنون . فكسروّا الشواهد و حفروا القبور مخرجينَ الجثث كرة ً ثانية ، فأهانوا الأموات مثلما أهانوا من قبلهم الأحياء . فكرتُ بلا جدوى محاولتي تلك ، و أن تهشيم زجاج سيارة لن يُصلح شيئاً مما أُفسِد و خُرَّب . فقد بِتُّ على قناعة ، و عن تجربة عشتها أقول ، أن قتل الإنسان معنويّاً و تكسيره من الداخل أشدُ وطأة ً من إطلاق النار عليه و إرداءه قتيلاً . روادتني الرغبة بأن أعود من حيث أتيت ، عندما أبصرتُ اثنين من رفاقي ، كانوا يراقبون تصرفاتي و يتحينون الفرصة لكي لا أنصرفَ عن الإندفاع في ذاك الإتجاه . كانوا رفاقاً أحببتهم و قد قضينا معاً نجري و نلعب و نتحدث ساعات طوال . لكني موقن بأن هو ، نعم هو و لا أحد غيره . الشخص الذي كان يقف وراء كل ما جرى . مجنون ؟ . لم تعُد صفة الجنون هذه تزعجني ، فقد رحل أغلى مخلوق يمكنه أن يناديني محسسّاً إياي يوماً ما ، أنني اقترفتُ ذنباً لا يُغتفر و أنني كنتُ أقرب إلى الجنون مني إلى العقل . ها هو يخرج ، و هل لي أن أخطأه أو أشبّه عليه ؟! . يركبُ سيارته و يحلُّ الكوابح ، فتنزلق على الإسفلت ، إلا أنه يتوقف حينما نتراءى له ُ ، حاملينَ بالحجارة الصغيرة في أيدينا . يمدُّ رأسه من النافذة و يصيح بكلمة نابية بأعلى صوته و آخر ما أبدعته قريحته و أفرزهُ حقده . لم أتراجع خطوة إلى الوراء ، شعرتُ بقدميَّ تنغرسان في الإسفلت ، كأنما شجرة تخترقُ أغصانها أسلاك السيّاج و تطلُّ أفرعها من فوق السور العالي .
- يا عربي يا كلب ! ، أنت تفكّر أن حجرك راح يخوّفني ؟ ها !
لزمتُ الصمت و لم أفه بكلمة واحدة ، مثلما فعلتْ أمي التي لم تنطق بكلمة واحدة و قد صِرتً على بعد خطوات قليلة من الذهاب إليها . أمي ، أريد أمي ..
- يعني أنت الظاهر أنك رجل و تريد أن تُظهر لي شجاعتك و بطولتك بحجارة تلُمّها من الشارع .. يا ابن الشوارع !
لم أعد أسمعك ، أرى شفاهك تتحرك و عربيّة غريبة مكسّرة لا أستسيغها .
- طيب .. جنتْ على نفسها براقش !
قالها و هو يدوّر بالمقود و يضغط بكلتا قدميه على دوّاسة البنزين ثم أردف مُغضِباً كأنما يتمتم لنفسه :
- عرب ! ، أينما أدرتَ رأسك وقع بصرك عليهم ، يمين شمال فوق تحت ..
اندفعتْ السيارة منطقلة نحونا بأقصى سرعتها بعد أن صرّتْ الكوابح الخلفيّة على الإسفلت ، مُصدِرة ً بذلك صوت إحتكاكها و دورانها الشديد ، كأنما هي تختنق و تتملّص من الغرق في الإسفلت .
و لا أتذكّر ماذا وقع لي بعد ذلك ، فهذا كان آخر ما رأيتُه قبل أن أحس بنفسي قد ارتفعتْ عدّة أقدام إلى الأعلى ، بعد أن أحسستُ بالهيكل البارد ينغرز في لحمي ثم ارتطمتُ بعد ذلك بالأرض . و قد كانوا هم يتحلقوّن حولي ، لا أدري منذ متى ؟ و من أين بالضبط خرجوا ؟ ، كأن الأرض انشقّتْ عنهم ..
لكن ما يورثني الآن شعوراً بالعزاء ، هو أنني قَدِرتُ على أن أرمي بالحجر نحو الزجاج الخلفي و أحدِثَ به كسراً ، و ذلك و أنا لا أزال مُلقىً بالهواء .
" الواحد منكم لم تنشّق عنه البيضة بعدْ إلا و ينصّب نفسه بطلاً .. عفاريت ! "
هذا آخر ما قُدِّرَ للمستوطن أن يبوح به و يداه لا تزالان على المقود ، عندما تناهى إليه صوت قرع على الزجاج ، و حينما التفتَ هاله فرادة المنظر . كان جسماً شفافاً يحلّق على قدر كبير من الشبه من ملامح الصبي الذي دهسه قبل لحظات ، شاهده يلوّح بيديّه الأثنتين إلى ناحيّة ٍ ما مجهولة ، فتتجمّع أجساد أخرى لها نفس الصفات بلا لون و لا
شكل ٍ محددين . يَصحُ أن نطلقَ عليها أرواح أناس ماتوا ثم بدأووا جميعهم في وقت ٍ واحد بالدقّ على زجاج الشبابيّك ، يدقون .. يدقوّن .. يدقون ..
9 \ 10 \ 2010