ـــــــــــــــ
عندما رجع للبيت مساء ، كي لا يثير ريبة أمه ، بعد تجواله المخبول في الشوارع والدروب طوال الوقت ...
دخل صامتا كالجماد ...حدقت أمه إلى وجهه وسألته مفزوعة :
- ما بك يا ولدي ؟ ماذا حدث ؟
حاول أن يبتسم وقال لها أنه بخير ولم يحدث شيء .
انصرف ،ودخل إلى غرفته منفردا بنفسه ... تمدد على فراشه وبدأ يستحضر كلمات أمه ..
يحضر طيفا من المجهول ،من عالمه الغامض ...
ربما من جوف قبره ...
هو لم يكن ليتذكـــر أباه ...
انتابته أحاسيس رهيبة ، ومشاهد الجثث الهامدة التي تعرض كل يوم على شاشات التلفاز للضحايا
الذين لقوا حتفهم في الحرب ...
تخيل المصير نفسه لأبيه المفقود ...
قاطعته أمه بطرقات خفيفة على باب الغرفة ،ودخلت في هدوء ...
وجلست بجواره وقالت ترجوه :
- تكلم يا ولدي ، صمتك يقتلني ، لمادا أنت شاحب هكذا ؟
انحنت عليه تتصفح وجهه ، تبحث في ملامحه المرهقة ...
وقال بقهر :
- لا أتذكر أبي ، لا أعرف كيــــــــــــــف يبدو ...
أجابت وهي تضغط على يده بدفئ :
-عود نفسك على النظر إلى صوره كل يوم ..
قاطعها في يأس:
-أمــــــي ...أريد أن أراه أمامي
تسقط يديها من بين يديه وتقول له بنبرة أهدأ :
- سوف تراه ...اصبر قليلا
يصيح في وجهها باكيا :
- ولكن متـــــــــى ؟؟ متــــــى ؟؟
تتنهد وتقول بثقة :
- قريبا إن شاء الله
مــــا تقوله أمه يبدو غريبا ،ينظر إليها في شك ...مضت سنوات طوال عن غيابه وهي لا تعرف عنه شيئا ..
كيف لها أن تثق كل هذه الثقة ...قاطعت شكه وقالت :
- صدقني ، أبوك مايزال حيا ، ويفكــــر بنا .
أكــــيد أمه مجنونة ، لكي تفكر هكذا ...يقول مترددا خوفا من أن يتصدع حلمها :
- أمـــي ، ولكن ...
مشت بخطى ثابتة نحو الباب وقالت :
- سيــــعود ...سيعود .
ــــــــــــــــ
مرت الأيام ...وحلم عودة الأب الغائب يكبر ...وتكبر معه المعاناة .
ـــــــــــــــــــــ
طرق على الباب في الصباح الباكـــر ...
ترى من هذا الذي يأتيهم في مثل هده الساعة ...
يستيقظ حسام على صوت ذلك الطرق الصاخب ...يمشي حافيا ...ويفتح الباب متوجسا
يرى واقفا أمامه على العتبة ...رجلا طويلا يحمل حقيبة سوداء صغيرة ..
ينظر للطارق المجهول حائرا :
- من أنت ؟ وماذا تريـــــــــــــد ؟
الرجل يمد يده إلى حقيبته ويسحب ظرفا يقدمه في صمــــت رهيب وينصرف .
أحس حسام أن محتوى هدا الظرف سيمزق شرايينه ...كان إحساسا مخيـــــــــــــفا ...
لكنه حاول جاهدا أن يتمالك أعصابه : فتح الظرف ...ما أن سقطت عيناه على عنوان الرسالة ...
حتى شعر بروحه تنخلع من جسده ...
هذا يعنــــي أنه لن يراه ...
كيف ستكــــــــــون حياته وحياة أمه المسكينة التي تنتظر بفارغ الصبر أن يعود إليها ...
سمع خطوات أمه تتجه نحوه وهــــي تسأل :
- ماذا وقع ؟؟
مــاكان يعرف ماذا يتوجب عليه أن يقول أمام هذا الخبر الذي زعزع كيانه ...
لكنه اقترب منها وحاول أن يجعلها هادئة وقالت بصوت تملؤه الدموع :
- هذه رسالة خبر وفاة أبــــــي ...
ضمها متألـــما ومواسيا لــــها ...
نزلت الدموع من عينيها في صمـــــت جارح ...بكت على ذراعيــــه
لقد مات أملها ،مات الوهم
وقفــــت واجمة مخدولــــة وصرخــــــت : لا ...لا
انتهــــــــــــت :فاتن

