أومأ له بأن انتظر ثم هبط برأسه إلى رأس الحفرة و صرخ بقوة :
" يا إسماعيل . أنت يا ابن المدارس ، هل تسمعني ؟ " ، كان صوت المعاول و الرفوش يرتد عن الصخور الخام متمازجاً مع الرمل و الحصى المُهال
. و في البعيد حيث ينتهي عنق القارورة المحفورة في الحجر و تعم العتمة و تشتّد الحرارة الخانقة أكثر فأكثر ، يتناهى صدى انفجار واحد في وقت
محدد . و الأرض التي تخالها مستقيمة ً صقيلة كسيّق مدينة أثريّة قديمة ، تنقلب و لا تفهم كيف بالضبط إلى شبكة متشعبة النواحي متعددة المنافذ .
كادا أن ينقلبا على عقبيّهما ، و الشاب الذي هبط على الحفرة للتو يضع ساعده على كتف الآخر ، عندما سمعا شخصاً يتكّلم بغضب :
- ألف مرة قلت لك لا تناديني بمثل هذا اللقب يا فؤاد ..
- على رِسلّك يا أخي ! . أعرّفك ( و هنا مدّ ذراعه فارداً كفه للأعلى بإتجاه الشخص الآخر الذي يبدو أنه ضيّف ) . مانولو داليدا . وصل اليوم في
الصبح على متن سفينة فك الحصار ، صحيح أنه جاء من الشواطىء البعيدة إلى هنا إلى غزة فاضيّ اليدين على خلاف باقي الركّاب المتضامنين ،
لكن أعتقد أن قوته تكمن هنا ( و أمسك بكفيّ الضيف و رفعهما تحت الشمس ثقيلتين مجرحّتين مخضرتيّ الأظافر الكبيرة ) .
- حسناً ، لا بأس . قلت لي من أي بلد ٍ هو ؟
و كأن هذا السؤال الأخير لم يكن متوقعّاً ، فجعل فؤاد يدمدم بينه و بين نفسه و أصبع سبابته يطرق شفّته العُليا ..
- بلد بعيد ، و لكن لا أذكر اسمه الآن ..
اقترب إسماعيل من الضيف متجاوزاً فؤاد ، الذي كان لا يزال يفكر ، و سأله بالإنجليزيّة عن البلد الذي جاء منها و ماذا بوسعه أن يقدّم للذين
يعملون تحت بين الخشب و الغُبار .
الضيف ذو البشرة البرونزيّة المحروقة و الشعر الفاحم الغزير ، يبلغ من العمر ثلاث و عشرين سنة قصير القامة من إحدى ضواحي بوغوتا
عاصمة كولومبيا ، يعمل حاليّاً كحانوتي و قد سبق له العمل في منجم للفحم في ذات المنطقة ، و لكن حادثة انهيار منجم أدّت بحياة عدد من زملائه ،
دفعت به هو الذي نجا بحكم مرضه و تغيّبه يومها ، إلى أن يشارك في دفن جثث الرفاق و لم يعد بعدها إلى المنجم لشعور ٍ مبهم لا يستطيع التعبير
عنه بالإطلاق ، كأنما هو احتجاج دفين أو وعي شقّ الخوف و خرج من بين طيّاته ، الله وحده يعلم ، لكنه أخبر إسماعيل و شيءٌ من اليقين في
عينيّه ، أنه نفس الشعور الذي جاء به إلى هنا قاطعاً كل هذه المسافة . قال أن أوضاع العمّال هناك صعبّة جداً ، ساعات العمل الشاقة و ظروفه
الغير صحيّة ، و الأدهى و الأمر تلك القطع التي يرموها في وجهك آخر الشهر كإجار لأنك استعمّلت رئتك كمنفضة لغبار الفحم . إن شيئاً مشتركاً
يبقى يجمع بين الكفيّن الكادحتيّن هنا و هناك . و كذلك الشركات الأجنبيّة المادّة ميسمها جاسّة ً العمّالة الرخيصّة في مجتمع فقير تُفني عمرها
و صحّتها طارقة ً باب المجهول في تخوم الأرض الأم .
عبثاً كان التقرير الذي أذاعته الشركة تعقيباً على الحادث ، فقل لي إذن .. أين يمكنك أن تعثر على الكثير من الماس البارد إلا في الأماكن الأشد
حرارة ؟ تلك الأماكن التي يموتُ فيها الإنسان ، و لا يفطن إلى نفسه ، من غبار الفحم و الأنثراسايت و عرق الإنسان الهالك المُستغّل منذ
الولادة ..
عندما فرغ من كلامه و فتح إسماعيل فمه متهيأ للحديث .. عبرت طائرة إسرائيلية الأنحاء على علو ٍ منخفض ، فتناثر هدير ُ محركّها الصلد القاسيّ
ضاجاً يطحن كل ما دونه من أصوات ..
فبادره إسماعيل بلهفة :
- قلت أنك تعمل حانوتيّاً الآن ، أليس كذلك ؟