راحــــــــــــــــــــــيل
في تلك القرية البعيدة عن ضوضاء المدينة و صخبها ، النائمة على ضفة نهر وديع ، المبتسمة لسماء الربيع الصافية ، هناك تعيش راحيل ، هناك ولدت وتربت و كبرت حتى بلغت الخامسة و العشرين من عمرها.لم تعرف من العالم سوى هذه القرية المنسية من اجندة الاصلاحات التي تطال مختلف المناطق قصد عصرنتها ، لم تعرف سوى الحقول الخضراء الظاهرة على مد البصر لم تعرف من البيوت الا بيتهم المتواضع الذي يصلحه والدها الشيخ مرتضى في كل خريف املا في ان يمر الشتاء بسلام دون ان تتحول الغرف الى برك من الماء.
راحيل فتاة طيبة الى اقصى الحدود يحبها الجميع في القرية و هي تقضي ايامها بين مساعدة زوجة والدها في اعمال البيت و بين مساعدة والدها في اطعام المواشي و جني المحاصيل.اما في اوقات فراغها فترافق صديقاتها الى النهر هناك تنظر الى وجهها و هو يرتسم على صفحة الماء ، الكل يردد بانها جميلة ذلك الجمال الطبيعي البعيد عن التصنع ، الجمال الذي لا تطاله المساحيق و الالوان فتلوث نقاءه.
تركت المدرسة عندما توفيت والدتها كانت مجبرة على التضحية من اجل تربية اخوتها الذكورحتى بعد ان تزوج والدها كانت تريد ان تربي اخوتها بنفسها ان تجعل منهم رجالا كما كانت امهم المرحومة تريد.ان تغرس فيهم اسمى و اقدس الخصال.و فعلا تم لها ذلك فكل واحد من اخوتها قد واصل دراسته الجامعية في المدينة و اكبرهم قد تخرج و عمل ايضا كاستاذ في احدى الثانويات.
"المدينة" حينما تسمع راحيل هذه الكلمة تتذكر المرات القليلة التي زارتها فيها برفقة اخيها.كانت تتعجب و هي ترى هذا الجمع الغفير من الناس يعبرون الشوارع و يتسابقون لركوب الحافلة.كانت تراهم في ابهى حللهم نساء و رجالا ، يمشون معا دون استحياء كما هو الشان في قريتها.
و في احد الايام جاء اخوها الكبير برفقة صديق له من المدينة تناولا الغداء في البيت ثم خرجا ليتجولا في ربوع الطبيعة الرائعة الجمال. اقتربا من النهر فلمح الشاب الوسيم تلك الفتاة الرائعة الجمال الجالسة على ضفته كحورية هاربة من البحر ، كاميرة هاربة من قصص الالف ليلة و ليلة.تلك الفتاة لم تكن سوى راحيل التي التفتت لتجد اخاها و صديقه فركضت مبتعدة خجلا منهما.
قضى ذلك الصديق اسبوعا كاملا في القرية و كان يود البقاء مدة اطول لانه كان عاشقا للجمال ، للاشجار العالية التي تحاول معانقة السماء ، للورود التي تزين الدروب ، لشروق الشمس الرائع و غروبها الاروع.كان عاشقا ايضا لعيون راحيل العسلية التي تتوهج تحت اشعة الشمس و لشعرها الحريري الطويل الذي يرتمي بين يديها كلما انحنت.راحيل هي الاخرى احست بشيء نحو هذا الشاب ، شيء لم تعرف له اسما ، شيء يجعلها تسارع لرؤيته اذا دخل و اذا خرج شيء جعلها تتمنى ان لا تتوقف عن النظر اليه حتى انها خاطرت و دخلت عليه الغرفة و هو نائم تاملت وجهه و ابتسمت.كانت تحس نحوه بشعور يختلف عن شعورها نحو اخوتها او نحو والدها اوحتى نحو ابن جارهم عثمان شيء يجعلها تبتسم و في نفس الوقت ترغب في البكاء.
انتهت الزيارة و حان وقت المغادرة..لم ترد راحيل ان يذهب هذا الصديق..رغم انه لم يكن بينهما كلام غير التحية ، لم تكن تجلس اليه او ترافقه..لكنها لم ترده ان يرحل..فالنظر اليه من بعيد و تعقبه كان يكفيها.وجوده اشعرها بانس غريب و الاستماع الى حديثه مع اخيها من خلف الباب كان يسعدها.طريقته في الكلام تختلف عما عهدته في القرية..طريقة مهذبة و صوت خافت مقارنة بالصراخ الذي تعودت عليه من المزارعين .احبت كلماته رغم انها لم تكن تفهم اغلبها.
رافقهم الشيخ مرتضى الى المحطة وودعهم داعيا لهم بالنجاح في دراستهم الجامعية.فقد كان هذا الصديق المسمى رياض طالبا بكلية الهندسة مع ابنه الاوسط محمد و تربطهما صداقة وثيقة نضجت على نار الزمن الهادئة فقد عاشا معا في الحرم الجامعي بحكم ان هذا الصديق يعيش في مدينة اخرى بعيدة نسبيا عن الجامعة.
مرت ايام وشهور و راحيل تفكر في رياض ..و تتبع اخباره بطريقة غير مباشرة مرة من عند اخيها محمد و مرة من حديث والدها الشيخ مرتضى مع زوجته عن الابناء و احوالهم و رياض هو الاخر ينتهز الفرص لزيارة القرية و رؤية ذلك الوجه الجميل الذي سحره منذ اول مرة ، و التكلم معها و لو بضع كلمات.هكذا غرست الصدفة في قلب كل منهما بذرة حب لم يعرفا سببه او نتيجته..كان حبا يكبر شيئا فشيئا على ضفاف نهر الحياة..يجاري الرياح في هبوبها فيهب شوقا يؤلم الاثنان معا ثم يجاري امواج البحر فيدنو ثم يبتعد في مد و جزر رهيب..يدنو حتى يخيل لكل منهما ان خليله امامه و بين ذراعيه..ثم يبتعد فيحترق القلبان لان المسافة التي تفصلهما لاتزال كبيرة.
استيقظت راحيل مبكرا كعادتها اعدت القهوة بالطريقة التي يحبها والدها ثم شرعت في ترتيب البيت و تنظيفه فقد اخبرتها زوجة والدها انها تتوقع زيارة من عائلة الشيخ عبد الرزاق و هو من اعيان القرية يملك مساحات زراعية واسعة و يتاجر في الخضر و الفواكه و غيرها و طلبت منها زوجة والدها ان تكون في ابهى حلة.
ساعات قليلة مرت قبل ان يدخل الضيوف البيت و تناديها زوجة والدها لتسلم عليهم.دخلت راحيل و هي تحمل صينية القهوة و تسمع عبارات المدح و الاعجاب من النسوة.انصرفت و لم تعر الامر اهتماما البتة.ايام بعدها اخبرتها زوجة والدها بما يجري.عرفت حينها لماذا كان يجب ان تكون في ابهى حلة امام الضيوف و لماذا توطدت الصداقة بين والدها و الشيخ عبد الرزاق..
الشيخ عبد الرزاق الذي كانت تناديه "عمي الحاج" بحكم انه بعمر والدها هو نفسه الذي ستزف له عروسا بعد شهر واحد..
لم تستطع ان تصدق الامر رفضته ، بكت و صرخت ، ترجت زوجة والدها ان تساعدها..استنجدت باخوتها.. لكن دون جدوى من سيستطيع ان يقف في وجه الشيخ مرتضى المعروف بحزمه و عناده..حاولت زوجة والدها التخفيف عنها بالقول ان الشيخ عبد الرزاق طيب و سيعاملها جيدا و انها ستعيش معه كالاميرة.
شعرت انها قد بيعت للذي يدفع اكثر.. ان هذا الشباب الغض و هذا الوجه الندي الذي يحاكي الشمس اشراقا ثمنه بضع مزارع و كيس من النقود."ستعيش معه كالاميرة"..من قال انها تريد ان تكون اميرة..و ماذا عن رياض..ماذا عن الشاب الذي خفق قلبي له..هو الذي اريد ان اعيش معه..و اموال الشيخ عبد الرزاق لا اريدها و صفقاتكم التجارية لا تعنيني..كانت تتكلم هكذا بينها و بين نفسها و هي تسكب دموعا غزيرة.
عرف رياض بالامر من صديقه محمد..لم يقل شيئا ..لم يكن بامكانه ان يقول شيئا ، ليس له حق في المعارضة ..اياتي على صهوة جواده الابيض لينقذها من براثن الوحش..انه كلام حكايات..ايطلب يدها ..كيف بامكانه ذلك و هو مايزال طالبا ..مازال يخطو خطواته الاولى في الحياة العملية..سلم بانه لا وجه للمقارنة بينه و بين الشيخ عبد الرزاق.
لم يبق من الشهر الواحد سوى اسبوع ستكون بعده راحيل سيدة البيت هناك في المنزل الانيق المحاط بحديقة غناء..سيكون اسمها "لالة راحيل" هكذا سيناديها كل من في البيت بما فيهم ابناء و بنات الشيخ عبد الرزاق..لكنها لم و لن تتقبل الفكرة.تسللت الى السوق خفية عن الجميع و اشترت سما قاتلا ..عادت للبيت.تمددت في فراشها..فكرت في امها المرحومة زينب و في رياض..لقد احبت الاثنين اكثر من كل الاشخاص الذين غصت بهم حياتها..تناولت السم مرة واحدة لكي لا تتراجع عن قرارها..شعرت به يسري في عروقها شيئا فشيئا..مر شريط حياتها امامها كانه صور بالعرض البطيء..رات نفسها على ضفة النهر..رات الحقول و اشجار الزيتون التي كانت تهوى تسلقها..رات رياض بقامته الطويلة و ملامح وجهه..ارتعدت فرائصها..انه تاثير السم الذي سكن جسمها.
دخلت زوجة والدها فراتها على تلك الحال ممسكة بيدها زجاجة سم زعاف سيحرر روحها الى الابد من قراراتهم و مخططاتهم التي فصلوها على مقاس راحيل لكنها لن تلبسها ابدا.صرخت فهرع كل من في البيت اليها و على راسهم الشيخ مرتضى..كانت راحيل ترتجف..اسرع احد اخوتها ليحضر الطبيب..لكن فات الاوان.صاح الشيخ مرتضى :
-لماذا فعلت هذا يا ابنتي..
كان حريا به ان يسال لماذا فعل هو ما فعل و يطلب الغفران منها..لم تنبس البنت بكلمة راحت ترتجف و ترتجف الى ان فاضت روحها فراح الجميع يبكونها..يبكون الام التي ربتهم و الاخت التي ساعدتهم..والبنت التي اعطت وقتها و جهدها في سبيل ارضاء الجميع و لكنهم ضنوا عليها حتى بفرصة في الحياة مع من تحب.ارتفعت روحها في السماء نظرت اليهم من فوق و ابتسمت ثم قالت :
-اخيرا ساتنفس هواء الحرية..
في ذلك الصباح الحزين.شيع اهل القرية راحيل الى مثواها الاخير..اختارت ان تزف الى الموت بدل ان تزف الى الشيخ عبد الرزاق..بكاها الجميع كما احبها الجميع.. بكاها النهر الذي لطالما جلست على ضفته وابتسمت له..بكاها الليل الذي كانت تسهر فيه..تحلم و تحلم. بكاها رياض الذي حلم بان تكون يوما زوجته و ام اولاده.
غادرت هذا الكوكب باكية تماما كما ولجته قبل سنين باكية..حاملة معها سر حب لم يكتب له ان يولد.