فتح باب منزله الصغير، ألقى بنظره خارجا متفحصا المكان بنظرة مأمورة من عقله المشتت ..... يبدو المكان خال، ارتدى معطفه الرمادي المقسم إلى آلاف المربعات الصغيرة، و لف رأسه بخرقة سوداء خبأ تحتها أذنيه التي تعبت من سماع تلك الكلمة التي حفرت أخاديدا دامية على قلبه العليل " ...الحَــرْكي" .
رمى خطوتين إلى الخارج، ثم التفت يمينا و يسارا ليتأكد من خلو المكان من أطفال الحي، الذين اعتادوا رشقه بالحجارة و هم يرددون شعارات تعلموها عن آباءهم و أمهاتهم " ... الموت للحركى ... "، " ... لا مكان للخائن بيننا ... ".
مضت سنـة كاملــة علـى انـتـزاع الإستقلال من براثين المستعمر الغاشـــم و بعد ثورة دامت سبع سنوات و نصف، و لكن حكيم لا يزال تحت وطأة استعمار من نوع آخر.
زمجرت معدته بأسى، منددة أنها لم تدق طعم الزاد منذ ثلاثة أيام بلياليها، فتحسس بطنه بيده مربطا عليه، يتأسف عن إهماله، و لكن ما باليد حيلة، لقد كان طريح الفراش عدة ليال من دون أنيس أو ونيس يتحسس جبينه الملتهب.
كان يمشي بأمان في أزقة الحي، الذي كان شبه مهجور من سكانه، أو على الأقل من أطفاله الذين وجدوا في إهانته تسلية لهم.
كان الطقس مجنونا اليوم كعادته في مثل هذا الشهر من السنة، الجميع مختبئون في بيوتهم، مما خدم حكيم خدمة لن ينساها له أبدا، اليوم أحــس أن الألـم قد غاب عنه لسويعات كي يرتاح، فحــتى الألــم يحـتـاج لـلــراحـة و السكــون، تماما كما يتعب الجلاد من نقش آثار السياط على جسد نحيل، فخرج متسللا ليشتري ما يحشو به هذه المعدة المسكينة التي لا ذنب لها فيما يحدث معه.
كل دكاكين الحي تعاهدوا على عدم البيع للحركى و الخونة، فما كان عليه إلى التسلل إلى حي آخر، فمشا متثاقل الخطى كأنه يجر مدينة الأحزان خلفه، كان جسمه واهنا، و عيناه الغائرتين تتوسطان وجهه النحيل و انحدر أنفه الطويل الدقيق عازلا بين خدين التهمهما الضمور و سواد المرض.
كان في عقده الرابع، و لكنه بدى شيخا هرما قد تجاوز السبعين، تحركت حشرجة في صدره فانفجر من فمه سربا متتابعا من سعلات غزت المكان بصوته المكتوم.
تقدم من الدكان بحذر و هو يلتفت ذات اليمين و ذات الشمال، و كأنه قادم برسالة سرية من جبهة التحرير الوطنية تحمل موعد تنفيذ عملية فدائية، كأيام الخوالي، تحرك صوته همسا: أريد لتر لبن و رغيف خبز من فضلك.
حمل كيس اللبن و تأبط الرغــيف، و عــاد أدراجــه مـن حـيث أتى، غير بعيد لمح دكان الحلاقة، مرر رؤوس أصابعه على ذقنه ، فوقـفــت بعض الشعيرات حائلا بينهما، أدخل يده في جيبه، سحب قطعتين نقديتين يتيمتين، هذا كل ما تبقى له، و لكن لا يهم، فغدا سيقبض ثمن أجرة بيته الــذي أجّره ليعيش من ثمنه البخس، بيته الفسيح الجميل، في حين أجّر لنــفـســه تـلـك الغــرفــة المـقـيـتة الرطـبـــة .... عــفـــوا ... هز رأسه معتذرا منها، فهي الوحيــدة الـتــي اسـتـقـبـلـتـه و لملمت أشلاءه التي تبعثرت على وقع كلمة " ... الحَرْكي "، الكلمة التي أطلقت عليه، فقط لأنه كان يعمل شرطيا في سلك الشرطة الفرنسية إباّن الإحتلال.
دخل فوجد الحلاق جالسا يتسامر مع رجلين، و ما إن رآه حتى أسرع قائما نحوه، رحب به و أجلسه على ذلك الكرسي اللولبي من صنع فرنسي، نظر إلى وجهه في المرآة، فصرخ صراخا صامتا: يا إلهي !!!! من أنت ؟
وضع الحلاق ....الصابون على ذقنه و بحركة لطيفة وزعها على كامل المساحة السفلية لوجهه الطويل ، فاستسلم حكيم لتلك اللمسة الناعمة من فرشاة كانت أنعم عليه من لحيته الشعثاء .
و بعد لحظــات مــن اسـتــواءه عـلـى ذلـك المقعد، دخل المحل رجل ضرير، فصرخ صاحب المحل مهللا : مرحبا بأسد الليل، مرحبا بسي عواد، و هلل الآخرين بعد أن أفسحا له مكانا بينهما، و أجلسوه مقاما يليق بملك من ملوك العرب.
تفحص حكيم وجه الرجل الضرير الذي انعكس أمامه على المرآة، ففرت من عينيه دمعتان ، إنه سي عواد، الرجــل الــذي أفــزع نــوم الـضـبــاط الفرنسيين، لقد كان فدائيــا جـلـجـل المنطقة بعملياته البطولية إلى أن فقد بصره بعد قصف المنزل الذي كان يختبأ فيه.
إنطلق سي عواد في سرد بعض القصص البطولية، التي راح ضحيتها العديد في سبيل وطن حر، تنهد متــرحـمـا عـلى الشـهـداء الأبــرار الـذيـن لم يستطعمو نـسـمـة الحرية بعد أن حاربوا إعصار الإستعمار الذي حاول جاهدا طمس ملامح هذا الشعب الأبي.
.... الـــظــــــــــل ....
كلمة نطقها سي عواد بخشوع و كأنه يتكلم عن أحد أبطال الأساطير الملعونة.
و جحظت عيون حكيم و تسارعت ضربات قلبه : لقد ذكره، ذكر الرجل الظل.
و أكمل سي عواد حديثه عن الظل : أكثر ما يحزنني منذ أن فقدت بصري هو عدم تمكني من رؤية وجهه الحقيقي، يا إلهي كم كان هذا الرجل عظيما، لم تستطع فرنسا من اكتشاف هويته الحقيقية، رغم تجنيد عشرات المخبرين و الجواسيس، و تنظيم الكمائن للإيقاع به، لذلك أطلقت عليه إسم الظل.
لم يكن يعرف هويــتــه الـحـقـيـقــة إلا رجـلـيـن اثنين فقط و قد استشهدا قبل الإستقلال بأشهر قليلة.
كان دائما يطلعنا عن أسرار خطيرة لتحركات و خـطــط الجـيـش الفرنسي، و كنت أنا الرسول الذي يحملني الرسائل إلى جبهة التحرير الوطنية.
كـان الحضـور منصـتــا لـسـي عواد بكل جوارحه، و قد أوشك الحلاق على الإنتهاء من إزالة ركام القــهــر عـن ملامح حكيم، قبل أن يسأل سي عواد : - و لكن كيف كان يحدث اللقاء بينكما أنت و الظل ؟
فرد سي عواد مبتسما : لم تخطئ فرنسا عندما لقبته بالظل، كان يجدني بطريقـته، بل يـفـاجــئني من خلفي، فأتسمر مكاني و لا أجرؤ حتى على الالتفات ناحيته، فيلقنني رسالته و يختفي.
رش الحلاق بعض العطر على ذقن حكيم مخاطبا إياه : بصحتك
فرد حكيم : الله يعطيك الصحة.
الحلاق : أرجو أن يكون عملي عند حسن ظنك يا سيدي
حكيم : لم تقصر...أشكرك و ستكون لي عودة إن شاء الله .. السلام عليكم.
إنصرف حكيم و غاب عقل سي عواد قليلا ثم نطق سائلا من حوله : من كان هذا الرجل ؟
- الحلاق : لا أعرفه، إنه غريب عن الحي.
- سي عواد : صوته ليس غريبا عني
- الحلاق : ربما أنت واهم فيه
- سيد عواد : هلا أخد أحدكم بيدي، أريد اللحاق به
خرج سي عواد مع أحد الرجلين الآخرين يقتفيان أثر حكيم خلسة، إلى أن أوصلاه إلى مخبئه.
دخل حكيم إلى بيته و عاد الرجلان من حيث أتيا، بعد أن تقصا عن بعض أسراره من سكان الحي.
وضع حكيم رغيف الخبز و اللبن على شبه الطاولة التي تتوسط الغرفة، تناول قدحا من اللبن تتبع كل رشفة منه بقضمة من الخبز يلوكها بين فكيه.
باغته انفجار في صدره، فتصاعدت من فمه سعلات دوت المكان كصوت مدافع العدو الغادر، فاندفعت قطرات حمراء ندية من صدره العليل لتطفو فوق سطح اللبن.
إلهي ......... ما أحوجه إلى حساء دجاج ساخن، عله ينجح في التفاوض مع هذا السعال اللعين، ليمنحه هدنة لليلة واحدة.
قام يترنح متجها إلى سريره الذي عبثت بفراشه الأوساخ و رمى بجثته الصفراء بين أحضان حمى ملتهبة الأشواق.
إنه اليوم الثاني، استيقظ حكيم على ضربات قوية تكاد تخلع الباب، قفز مذعورا: من الطارق ؟
- رجل يود محادثتك ( صوت جاءه من خلف الباب )
فتح الباب ليــجــد رجــلا غـريبا يسد عليه أشعة الشمس البيضاء، يقف خلفه سد من سكان الحي الذين لطالما رشقوه بكلمة " الحَرْكي ".
- عفوا ... ماذا تريد ؟ ( سأل حكيم مترددا )
- جئت أخبرك أن والدتك قد توفيت.
تسمر حكيم مكانه و اهتز جسده و ارتعشت أوصاله، فرت دموع من مقلتيه، ثم انتصب و اعتدل في مكانه و صاح في الحضور.
- كَــذَبْـت ... الجزائر لا تموت و لن تموت.
فهلل الجميع ...... الله أكبر،
و ظهر سي عواد من خلف الجموع يبكي دموعا حية من عيون ميتة.
الجزائر لا تموت و لن تموت........... كانت هذه كلمة السر الحربية التي استعملها الظل في إحدى بطولاته الخفية.
............. إنتهى