كان يا مكان، صغير قد كان، فلم يعد له الآن مكان...
كان يا مكان، قصة جرت فصولها بين بني الإنسان، قصة حنان و بحث عن واحة أمان، قصة عجزت عن تسطيرها للآن البِنان،لا تقبل الركن في الأرشيف كالأساطير و لا حتى النسيان، على مضض قد تغض الطرف عند تلافيف طي الكتمان، حيث تتمنَّع على القيل و القال و تكتفي بالأشجان، يتوقف عندها الزمان في حلق المكان...
كان من بني الأنسان، طفل تفحت منه المقل على أحلى الأنام، كأنها ورود نظرة سليلة عذب الجنان، ما أوفى المقال قطُّ وصفها و إختار زهد لغة الكلام، هي بعض من فلٍّ يفوح بعطر من عبق الإمتنان، هي باقات ياسمين أوراقها من السلام، هي بنفسج بشذى من أريج الحنان، هي من النسرين الذي خلب الألباب من بين السحاب، هي من البذل الذي يشهد رقائق شقائق النعمان، هي من العطاء الذي أينع له زهر الأقحوان، هي من نرجس أسر بسحره الأقلام تحت ظل شجر السنديان،
هي جنة و جنان، و روضة و رياض،
هي الشفق الأحمر فوق السهل الأخضر، هي النسيم العليل الذي يشفي الغليل،
هي شمس مشرقة على القلوب المحترقة، و في التضحية بالغالي و النفيس مستغرقة،
هي من علم الثغر كيف يرسم على التقاسيم البسمة، هي من تهمس العيون منها في عفوية بالحكمة، هي من من تطيَّبُ ألم الفؤاد بمجرد لمسة من الأنامل، هي من تقرأ ما في البال كأنه مسطر على الجبين، هي من يستشعر ما تضمره منه الصدور، كلماتها تطربه كأنها أعذب سمفونية، هي ما يكون أشبهه بتغريد الكروان، مثال ضرب بالكروان لتقريب المعنى لبني الإنسان، و إلا فبينهما بحار شتان، شتان بين طير كروان يشدي بمبهوم الألحان، و شتان بين حروف تفيض بالطيبة لتروي الضمئان، في طرفة عين قد تغمر بالخير كل الشطئان، و في لحظة تروي نبات الصبار بالإحسان، و تمطر الصحاري بأمطار العطاء على وقع عزف الناي و الكمان، و ترسم في الأفق بالبنان قوس قزح بادي بجلاء للعينان، منه يستلهم الكروان تغريده كالعاشق الولهان، و العندليب لألوانه بغنائه يستجيب، و البلبل بزقزقته هو لهما مثيل، و الشحرور بكل سرور يشجي مسامع الزهر تحت شمس الأصيل، و كذا طير السمان ما فاته أن يبدي الإمتنان مرفقاً بالعرفان،
هي مهد الأحلام، حيث طاب للصغير كل ليلة توسد الركبة، ليصغي بإنتباه لقصص الغول و هاينة العذبة، و الأنامل الزكية تعبث بشعره و تداعب خده، تتحسس بالإحساس تقاسيمه و تحس بما يخالج نفسه، تعرف عن ظهر قلب كل معاني حروف إسمه، ما ظهر منها في العلن، و ما أخفاها في السر رسمه، تتساقط عليه الكلمات منها في سلام و سكينة، حتى يداعب النوم ما تيسر من رموش جفنه، و في الأذن لا يزال صدى ما جاء على أحلى لسان، ليسبح بعد ذلك في عالم الأحلام حيث يطيب له الطيران في الأوهام، و ما همه بعد ذلك ليل أرخى سدوله بالظلام، فللشهريار شهرازد، مباح الكلام عندها حده حد الصباح قبل أن يسمع للديك صياح، و للصغير شهرزاد لأجله تبيح الكلام ليل نهار، و على ذلك لها إستمرار، فلصياح الديك ما أبهه الصغير، و لا حتى لعقارب الساعة في يومٍ قد إهتم، فعلى الشهرزاد يمسي و عليها يبدأ صباحه، فهذا مبلغ أمله من هذه الدنيا برمتها، و هذا هو بحق سعده،
فبدونها، لا يكتمل يومه، فكيف لليوم أن تتم معانيه ؟!، دون شمس مشرقه بأشعة الأمل تواسيه...
هي حصن حصين، ولد فيه الحنين،
و ملجأ أمين، من عالم أبدا لا يستكين،
هي مدرسة للحياة، تدرج الصغير على فصولها، منذ كان نطفة في قرار الرحم، إلى أن نما كالجنين و ولد رضيعا كمضغة اللحم، ليعلن عن صرخة الحياة، و عن إنتقاله لقسم الدنيا بحياء، فقد حز في نفسه جز حبل السرة، فقد أحس في الحلق بغصة، فبالفراق بشِّر و هو مجرد مضغة، لم يمضي عليه في هذه الحياة سوى لحظه، و لو كان الأمر بيده لأعاد ربطه، فتفجرت سرائره بالأسى، يبكي الفراق قبل أن يعيشه، أو يعرف له تعريفا سيفيده، فهذا أول سعيه، بل بالأحرى أول نعيه...
تلقفت الصغير بعد أن ألم به ضير أيدي ملائكية، بلسما كانت على ما إرتعد من فرائصه، سلاما كانت على ما تغيَّر تعابيره، بالأمل حاطته و في الحنان لفته و بالحليب غذته، فنسي كل الدنيا الفانية، فحسبه برهة مختلسة من الزمان، يحياها في عيشة هانية، فلم الجزعُ ؟! و ملامح الأمل منه دانية، تفرش له الدنيا بالطمأنينة، و تحرصه من كل ما يريد به ضغينة، فنام الرضيع، في مهده كالحمل الوديع، و هو لا يقبل أن يقول للرحم توديع...
نام الرضيع، و مع نومه نما، و بين نومه و صحوه، عيون كعيون المها تحرصه، صباح مساء، عيون زادت على عيون المها، كوْنها عيون منها منابع الجميل و المعروف تتفجر، ماءها من العذب الزلال، الذي يتدفق من سمو الإحساس كالشلال، عيون توارت أمامها من خجل عيون أجمل المها، و إستحيت منها عيون غزلان الرشا، و خجلت منها عيون من الريم، عيون جفت أمامها عيون العذارى، ألهمت الصغير حتى بالحياة نما، ألهبت فؤاده حتى على القدمين وقف و مشى، فقد طاب له على أثرها إقتفاء الخطى، فكل مكان يشهد بالذكرى، عنده هي حية و إن لم تكن ترى، فحسبه أنه بقلبه يرى ما لا يرى...
ألم بالصغير كم من داء، و في كل مرة في الحضن كان له دواء، من البسمة كانت تجعل له أفضل ترياق، جالسة بجانبه القرفصاء، تسأل رب السماء، أن يدفع عن صغيرها الداء، فلمرضه هي تمرض، و لحزنه هي تحزن و تواسي، و لفرحه هي تفرح و لله تناجي، نام الصغير بالأمس، و هي بجانبه لا تزال تجلس، فقد قاطعت سفراة النوم، فقط، ليكون لها بحال صغيرها علم، علم في الحياة هو لا يُعلَّم، الإيثار منهجه و الحب عنوانه و العطاء فروعه، علم لا يُعلَّم به جل الخلق ليس لهم علم، منه لا زلت أتعلم، أمامه العقاقير تثبت عدم فعاليتها، في مقابل حس مرهف من الضمير ينم عن بصيرة، و الأدوية تصبح بزلة من القلم في عداد الأمور الشكلية، عندما نستشف ما يقظ مضجع النفسية، هي وصفة سحرية، ضيعها أهل البرية، على إيقاع نمط الحياة العصرية...
مشى الصغير، و على درب الإنس مضى، و على مراحل التعليم تدرج، و على التعليم الإبتدائي عرج، تفوّق و ما هوى، و إلى الإعدادي إنتقل و لم يبدل الرؤى، خال أن الحزن عن دربه بميلاده قد نأى، و ما فطن قط لأضغاث من الأسى، و لا علم للأسف معنى، فكيف لمن يرى المنى أمام عينيه تحيى ؟! سيحسب في يوم أن لها أجلا إلى رج كيانه سيسعى ؟!، لم يفكر الصغير في هذا قط، و لم يرد التفكير، و إن حدث فعلى مضض و مرور كرام عليه يمر، معه يتمنى الموت فلم يبقى له في الدنيا غرض، تقاذفته الأيام، و قذفته إلى الآلام، حتى أصباح ذات صباح، بجنب قمره يحرصه بعد أن ألمت به جراح، يأبى القلم فيها الإستفاضة، ففيها من كل حرف له جرعة مرارة، مع كل نقطة منه على الحرف دمعة، و مع كل كلمة من الحرف حسرة، و مع كل فاصلة حجرة عثرة قد تكون في خط الحرف مقصلة، و قد يمحي القلم كل حبر أفاضه من مكنون الفؤاد كالعادة في المحصلة، و فعلا ...
فقد تمنى القلم من قبل لقيا المنون، و هو ممنون، أو حتى الجنون، المهم أن لا يكون...
و سكتت شهرزاد الشهريار، عن مباح الكلام، ففي الأفق يلوح الصباح، و الديك من قبل قد صاح...
بقلمي... 